ذات يوم طلب منى الأستاذ أنور الهوارى وكان يومها رئيسًا لتحرير «الوفد» أن أذهب لماسبيرو لحضور حلقة خاصة فى برنامج (حالة حوار) عن الوفد حزبًا وصحيفة تحت عنوان (الوفد بين الماضى والحاضر). قلت له: وهل هذا متاح أو بمعنى أدق مسموح به فى تليفزيون الدولة فى ذلك الوقت؟ فرد قائلاً: مع الدكتور عمرو عبدالسميع مسموح. يومها ذهبت بالفعل إلى ماسبيرو ووجدت أعدادًا كبيرة من شباب حزب الوفد وبعض قياداته، وعندما لم أجد فرصة للتواجد انسحبت عائدًا لمنزلى وشاهدت الحلقة أمام الشاشة. وأسبوع بعد أسبوع، بدأت أتابع البرنامج وأنا فى حالة دهشة من جرأة الموضوعات المطروحة، ومن نسبة الوعى الفكرى لدى الضيوف دعك من ثقافة وفكر الدكتور عمرو عبدالسميع فهو فى ذلك لا يحتاج منا شهادة وقتها قدم البرنامج رؤية نافذة. وكاشفة لتيار الإسلام السياسى وعلى قمته جماعة الإخوان. وتبارى فى ذلك بالوثيقة والقول الراحل صاحب الموقف الذى لم يتزحزح عنه فى الوقت الذى تاجر فيه الكثير من الكتاب والصحفيين بالمواقف حتى إن اختلفت معه وهو الراحل الكاتب الصحفى عبدالله كمال. وظل برنامج (حالة حوار) الذى فكر فيه وقدمه د. عمرو عبدالسميع طيلة مدة عرضه عبارة عن رسالة وطن تبحث عن ساعى بريد ليصل بها إلى شاطئ الأمان. فالرجل من خلال منهجه الفكرى والسياسى والثقافى حاول أن يصل بتلك الرسالة التى كانت تهدف إلى إيقاظ الروح الوطنية وزيادة الوعى بها من أجل الحفاظ على كيانات ومؤسسات الدولة تحت مظلة التطور ومواكبة عصر الحريات بما لا يهدم دعائم الدولة.. ومرت سنوات وجاءت عملية 25 يناير حسب وصفه واعتقاده بل ويقينه لتتحول مصر بعدها من (حالة حوار) له مضامينه وفكره وتداعياته ومنهجه إلى (حالة خوار) لها هدف واحد ووحيد وهو هدم الدولة المصرية. اتفقت معه على إجراء هذا الحوار. فى الموعد المحدد كنت أمام مكتبه بالأهرام. استقبلنى ومعى زميلى المصور. قدم لنا شيوكولاته قبل الكلام. ثم أمسك فى يده القلم وأغلق هاتفه. وطلب لنا "شاى بالنعناع". وطلب لنفسه قهوة. ولاحظت أن كلمة (بردون) ينطقها بالفرنساوى كما ينطقها (فرانسوا أولاند الرئيس الفرنسى) دائمًا عالقة فى كلامه إذا ما أراد أن يقطع الكلام بيننا. قلت له هذه سلسلة ذكريات رمضانية تحت عنوان (اللهم إنى فاكر) سنخرج فيها بعيدًا عن السياسة قليلاً ونتذكر سنوات الصبا والطفولة فى رمضان. فقال: طيب أعمل إيه وأنا كل ذكرياتى فى رمضان متعلقة بالسياسة؟. فقلت: إذًا نبدأ بالسياسة.. فمن منا يستطيع الفكاك منها. وإلى نص الحوار. عندما تهل عليك أيام رمضان.. من المحتمل أن يرد إلى ذهنك ذكريات وأحداث تدور فى مخيلتك.. أليس كذلك؟ دعنى أقول لك إن أكبر حدثين فى حياتى وكثيرًا ما أتوقف أمامهما كانا في شهر رمضان وكانا وربما تستغرب من ذلك عبارة عن أحداث سياسية من الدرجة الأولي. وما الحدث الأول؟ كان هو حرب أكتوبر فى رمضان 1973 يومها كنت طالبًا بكلية الإعلام جامعة القاهرة في الفرقة الثانية، وكنا علي وشك دخولنا الكلية. وتأجلت الدراسة إلي وقت آخر، وأتذكر أن لحظة عودتنا للدراسة أنا وزملائي بعد هذا الحدث العظيم وجدنا أنفسنا أمام لحظة غريبة كأننا نري بعضنا للمرة الأولي، كل واحد منا يرى الآخر وينظر له دون كلام، وكأنه يريد أن يقول له هل رأيت ما حدث كما رأيته؟ وهل شعرت به كما شعرت أنا به؟ كانت لحظة تاريخية فى حياتنا. أعرف أنه كان لك أخ ضابط فى الجيش يحارب على الجبهة؟ نعم كان أخى رحمة الله عليه ضابطًا بدرجة عميد هو العميد أحمد عماد عبدالسميع طبعًا. ونحن كأسرة كنا بنتطلع إلي تنسم أخباره على الجبهة فهو كان يخدم في سلاح الاستطلاع خلف خطوط العدو. وبالتالي كان إحساسنا أحساسًا مضاعفًا بالخطر وبالقلق وبالرغبة في تحقيق النصر والرغبة في أن يعود بسلام. وإن عاد الجندى بسلام.. عادت معه الأرض إلى أصلها بسلام؟ بالضبط كده. لذلك يومها كانت تختلط عندى المشاعر الشخصية بالمشاعر الوطنية. وهل كنت وقتها تمتلك الإدراك السياسي لتتابع كل ذلك؟ في هذه المرحلة كنت واعيًا جدًا سواء مرحلة 67 أو مرحلة 73 كان يقال عني (الشاب المعجزة) في ذلك التوقيت. كنت واعيًا جدًا بكل الأمور الثقافية وبكل الأمور السياسية. وما زلت حتي هذه اللحظة أتذكر وقائع كثيرة متعلقة بهذه الفترة. وقائع متعلقة بفترة النصر أم بفترة الهزيمة؟ بالاثنين معًا. عندما تظل لمدة 6 سنوات في ضغط وإحساس بالإهانة الشديدة. وأنك تتطلع إلي شيء قد يجيء وقد لا يجيء وتأتى لحظة تحس فيها أنك قادر على فعل شيء. وتشعر أيضًا بشعور جارف وقوي جدًا وقلق علي استمرار تحقيق التقدم أو النصر، هواجس بسبب ما لديك من هواجس قديمة.. هنا تسأل نفسك.. هل النصر هذا سيستمر أم لا؟ ويومها كان أخى خلف خطوط العدو فيختلط دعاؤنا فى الأسرة ما بين الدعاء للابن والأخ بالدعاء للوطن. كان هذا الحدث الأول الذى مر فى حياتك فى رمضان.. فماذا عن الحدث الثانى؟ الحدث الثانى هو وقوف الفريق وقتها عبد الفتاح السيسى يوم 26 يونيو 2013 ليعلن عن بدء حرب التحرير من الإرهاب عندما طلب من الشعب تفويضًا بذلك. وهى لحظة تاريخية ومحورية فى امتداد وتوسع وتوغل عملية 25 يناير؟ تقصد ثورة 25 يناير؟ أقصد عملية 25 يناير، من قال إنها ثورة؟ أولاً نحن نعرف يعني إيه ثورة؟ وندرسها.. ونعرف أيضًا يعني إيه الانقلاب؟ ونعرف يعني إيه مؤامرة؟ ونعرف يعني إيه عملية؟ وما مفهوم العملية؟ هى عملية مخابراتية خفيفة تم تنفيذها تنفيذًا دقيقًا في مصر. وليس لي علاقة بأن هناك كتلة عريضة من الناس كانت تريد الاحتجاج علي سياسات اجتماعية يراها أصحابها أنها ظالمة، هؤلاء تمت قيادتهم أو دفعهم أو استغلالهم، من طلائع الخونة والمتمرنين في صربيا وفي المعهد الأمريكي وفي أكاديميات التغيير في قطر أو في لندن إلي آخره. لكن كان هناك بعض الشخصيات التى نطلق عليها شخصيات عامة كانت تتقدم الصفوف؟ تلك الشخصيات أغلبها محبطة وشريرة. أنا مثلاً رأيت منهم بعض الناس الذين كانوا يقدمون التماسات إلى رئيس الجمهورية الأسبق حسني مبارك من أجل أن يشكلوا وزارة لحقوق الإنسان ويبقي هو الوزير لها، وعندما لم يقتنع الرئيس وقتها بذلك أصبح عدوهم الكبير. دعنى أسأل ما الفرق بين مفهوم الثورة ومفهوم العملية؟ ما حدث مثلاً فى فرنسا ثورة بالمعني الحرفي للكلمة بمعني علوم تغيير المجتمعات، ولكن ما حدث هنا هو تغيير النظام وليس تغيير المجتمع. إذن نحن كنا أمام ثورة كانت وقامت لتغيير النظام فقط. وهى بالفعل غيرت النظام؟ طيب وبعدين، ما الجملة الثانية؟ الجملة الثانية عندما تكملها تجد نفسك أمام جماعة الإخوان المسلمين التى استولت عليها وكان أول من دعموا ذلك هم نفس المجموعات العميلة الخائنة المتورطة في التمويل وعمليات الدفع من الخارج. تقصد النخبة المثقفة التى ذهبت وجلست فى فندق (فيرمونت)؟ نخبة إيه التى تتحدث عنها؟ نحن أمام مجموعة من (هليبة) الجمعيات الأهلية والعملاء المتدربين في الخارج وبلطجية المولوتوف والحجارة وأراجوزات التوك شو. وهل هذه تقارن بالنخبة المصرية في الأربعينات أو الخمسينات؟ هل تقارن بالنخبة المصرية في الستينات؟ هل تقارن ببقايا النخبة المصرية في السبعينات؟ إذا لم يكونوا نخبًا فكرية وسياسية وحقوقية.. فمن هم؟ هم صناع الفوضى. حين نتكلم عنهم نصفهم بصناع الفوضي المصابين بالارتباك العقلي والثقافى. فعندما يتعلق الموضوع بالتمويل، وعندما يبقي الموضوع موضوع مصلحة علي مستوي الحضور الشخصي يعني بتكتسب أهمية أكبر دون أن يكون لك حق في هذه الأهمية. فهذا يعد الانكشاف الحقيقي لتلك الشخصيات. بمعنى؟ أليس هؤلاء هم من عينوا مستشارين لمحمد مرسي؟ أليس من بينهم من ذهبت لتترجي كل أجهزة الدولة المصرية لابنها الذى يعمل مذيعًا في قناة النيل للأخبار ليعمل حلقة مع محمد مرسي؟ أليس من بينهم من ذهبت تتمرغ تحت قدمي سوزان مبارك لتعينها في مكان ما بعد ما خسرت قضية ما وخسرت فيها منصبها الصحفي وعينتها سوزان مبارك لدورتين متتاليتين في مجلس الشعب. أليس من بين هؤلاء من راحوا يقفون بجوار مرسي وينظرون لأهمية حكم الإخوان وأهمية وجود مرسي. وأهمية سقوط المرشح الذي أمامه (الفريق أحمد شفيق) وبالمناسبة كان ناجحًا في الانتخابات وتم تزويرها لصالح مرسى. أحمد شفيق كان ناجحًا وتم تزوير الانتخابات لمرسى؟ أمال انت فاكر إيه؟ وأنا هنا لست منحازًا لشفيق فأنا لا أعرفه، لكن تلك هى الحقيقة. دعنى أسأل حضرتك لماذا تُحسب من قبل البعض على نظام مبارك؟ أنا لم أكن فى يوم ما جزءًا من الحزب الوطني. ودائمًا كنت أراه نقطة ضعف أكثر منه نقطة قوة للنظام، ولكن كان هناك من خرجوا علينا ليعلنوا تمردهم علي نظام الحكم ويعلنوا أن هذا النظام كان نظامًا فاسدًا ومستبدًا. والحقيقة أن التاريخ يرد علي هذه المقولة لأن نفس الأشخاص هم من كانوا ضد المشير طنطاوي عندما كان يقوم بأعمال الرئاسة في مصر ونفس الأشخاص كانوا ضد المشير السيسي عندما أصبح رئيسًا للجمهورية. إذًا مَن هؤلاء؟ هم أعداء للدولة المصرية وللجيش المصري، وعداؤهم ليس لشخص بعينه. فى نفس الوقت دعنا نقول إنه كان هناك أشياء مهمة تدين هذا النظام السياسي قبل 25 يناير ومن ضمنها تغييب المعايير في الدولة المصرية، يعني هذا النظام كان يختار أشخاصًا خطأ علي الكلية وعلي التفصيل في مواقع حساسة في المؤسسات المصرية. جئت إليك نتحدث فى ذكريات رمضان فأخذتنا ذكريات السياسية.. فهل من الممكن أن نعود لروضة المنيل قليلاً فى الطفولة؟ الطفولة كانت في شارع الروضة بالمنيل، وكانت وقتها منطقة راقية للطبقة المتوسطة، لكن في نفس الوقت كنت تستطيع أن تقول إن ملامح الحياة كانت أشد وضوحًا لأنه لم يكن فيها هذا الزحام الموجود حاليًا. أتذكر أنه كان في التليفزيون فوازير بيعملها ثلاثي أضواء المسرح لكن دلوقتي هتتذكر إيه ولا إيه ولا إيه؟ تتذكر أن الفوازير كانت بتعملها السيدة آمال فهمى في الإذاعة وكان فيه ألف ليلة وليلة محمد محمود شعبان بيعملها في الإذاعة، لكن اليوم عندك 60 مسلسلاً معظمها في اللحظة الراهنة مقتبسة من مسلسلات برازيلية ومسلسلات أمريكية وتُعرض علي الشعب المصري بغذاء ثقافي فاسد حتى يعيش في غيبوبة حقيقية تصنعها مثل هذه المسلسلات. وحتى على مستوى الأغنية لقد تعودنا أن الأغاني هي وثيقة للتأريخ الاقتصادي والسياسي والثقافي والفني، وبالتالي لم يعد إنتاج الأغاني هذا يلفت نظرك. لماذا؟ لأنه حل محلها تترات المسلسلات الصاخبة جدًا التى فيها رغبة في اجتذاب مستهلك لهذه المسلسلات بدون التعبير عن الحالة الوجدانية أو دون التعبير عن مستوي فني مهذب وله قيمة. وعند القيمة توقف بنا الحوار وبدأت الاستعداد لمغادرة المكان.. غير أنه لفت نظرى أثناء الحوار وكنا قبل الصيام بأيام أن العامل الذى دخل علينا بفنجان الشاى متجهم الوجه ومطلق اللحية خفيفًا ويبدو أنه يخفى تحتها اتجاهه الفكرى الذى قاومه وما زال د. عمرو عبدالسميع على مدار سنوات طويلة بقلمه وفكره وقوله. والدكتور فى نفس الوقت يتعامل معه بشدة ظاهرة.. وواضح من نظراته أنه لا يطيق وجوده على باب مكتبه. غير أنه فيما يبدو أن مؤسسة الأهرام فيها من لا يريد للدكتور عمرو عبدالسميع أو هذا ما فهمته أن يأتى ويتواجد كثيرًا فى مكتبه بدليل أنهم (زرعوا) له هذا الرجل حتى يجعله فى حالة زهق وتململ وضيق طيلة وجوده.. فهل هذا الذى استنتجته صحيحًا؟ ربما.. وإن كان الأمر كذلك، هل سيستسلم الدكتور عمرو عبدالسميع أم أنه سيقاوم؟ الإجابة ستحملها الأيام القادمة. وإن كنت أثق أنه سيقاوم.