رحل إلي ذاته وتجول بين ثنايا نفسه القلقة والمعذبة.. إنه ترحال من نوع آخر أقدم عليه كاتبنا الكبير الراحل «أنيس منصور» فبعدد البلاد وآلاف العباد الذين قابلهم وعاش عاداتهم وتقاليدهم من شرق الدنيا الي غربها جاءت رحلته مع ماضيه وذكريات طفولته وشبابه ومراحل تكوينه وكيف كان يرحل في وجوه من يقابلهم ويتعلم منهم فينظر ويفلسف الأشياء والبشر من حوله. 11 شارع السكة الجديدة في المنصورة، كان بداية اشياء كثيرة في حياتي.. مجرد صدفة. ففي هذا الشارع كان يوجد محل نصر لبيع الورنيش صاحب المحل فلسطيني وزوجته من بولندا وعندما ذهبت إليها لأول مرة وجدتها تقرأ «الأبله» لديستوفسكي وباللغة الروسية.. وحاولت ان تشرح لي عظمة المؤلف والرواية ولكني لم أفهم.. أو لم اكن قادراً علي استيعاب هذا الذي تقول ثم من هي؟ وبالقرب من هذا الشارع توجد دار ابن لقمان الذي اسرنا فيه لويس التاسع أيام الحرب الصليبية وفي داخل هذه الدار وأمامها وفي الطريق اليها أناس من كل شعوب الارض اشكال وألوان وأحجام ولغات.. وكانت معهم كتب صغيرة وكبيرة بعد ان يقرأوها يتركونها إلي جوار الحائط.. وكنا نذهب لجمعها وأحياناً نطلبها.. وفي احدي المرات عندما تزاحمنا علي هؤلاء السياح متسولين فكانوا يعطوننا فلوساً وأحياناً بقايا طعام.. ولم تكن تسعفنا الانجليزية أو الفرنسية أو الايطالية فنؤكد لهم اننا لا نريد إلا الكتب.. شيء غريب في ذلك الوقت كنا نجد اصحاب أي بيت وأي دكان يجلسون أمامه الرجال والنساء والاطفال ومن السهل ان نتحدث الي اي أحد في شيء مثلاً كانت هناك مكتبة الدميري يدخل الواحد منا يسأل: عندك مؤلفات المنفلوطي فيقال: لا.. نحن لا نبيع الكتب نبيع الكراريس والأقلام ولكن اذا أردت أن تجد هذه الكتب اذهب إلي شارع كذا وإذا لم تجدها في هذا الشارع فسوف تجدها عند الست حميدة في شارع كوهين المتفرع من شارع الشيخ حسين.. إنها سيدة مسكينة حاول تساعدها ويجيء رجل طيب معنا يدلنا علي مكان بيع الكتب الجديدة والرخيصة.. وفي يوم كنا نبحث عن التوراة لنقرأ معاً وبصوت مرتفع سفر (نشيد الأنشاد) بسبب ما قرأنا عن هذا السفر ووصف لما فيه من جمال شاعري وموسيقي فقيل لنا: مرقص الجواهرجي له أخ قسيس وصوته جميل ويساعد الطلبة.. اذهبوا إليه ربما اعطاكم ما تريدون مجاناً.. ولو طلبتم إليه ان يشرح لكم كل شيء فسوف يفعل.. اذهبوا إليه.. ونذهب ونجد القسيس هناك ويطلب إلينا ان نزوره في بيته ويشرح ويشرح ونحب فيه أدبه ورقته ومرحه وإخلاصه ويطلب الينا أن نذهب لنسمع موعظة في الكنيسة ونذهب ونجلس في آخر الصفوف». هكذا تحدث الكاتب الكبير الراحل أنيس منصور في كتابه الذي اعتبره الأهم لأنه خصصه للكتابة عن نفسه ورحلته الشاقة فكرياً وفلسفياً في الحياة وتأثره بمن حوله يقول الكاتب أنيس منصور في موضع اخر من الكتاب انه احب الشاعر كامل الشناوي ولكن بطريقته الخاصة كيف؟ هذا ما ستعرفه مما كتب فهو يقول: لم أر البهاء زهير وحافظ ابراهيم وعبد العزيز البشري وإمام العبد وعبد الحميد الديب ولكني رأيت وسمعت واحببت كامل الشناوي لم اعرفه شاعراً ولا محدثاً ظريفاً.. ولكن الصدفة جعلتني اعرفه صحفياً أهون ما فيه فقد كان كامل الشناوي محدثاً ممتعاً.. تعرفه لحظة واحدة، فكأنك عرفته طول حياتك.. هو الذي يختصر المسافة ويدخل في حياتك.. في عقلك وقلبك.. فإذا به جزء منك وأنت جزء منه هو ضروري لك، وأنت ضروري له هو يعطيك هذا الإحساس. ومع كامل الشناوي لا تملك الا ان تحبه جداً أو تحبه بحساب أو تحبه علي حذر.. ولكن أنت تحبه أما حبه لك فهو «جاهز» موجود دائماً سواء عرفته يوماً أو ألف يوم. أما ثالوث الفكر المصري عن الكاتب الراحل أنيس منصور (العقاد، طه حسين، توفيق الحكيم) فيراهم بعقله ثم ينصحك قائلاً: من السهل ان تكره العقاد ومن الصعب طه حسين ومن المستحيل توفيق الحكيم فليس له اعداء حتي اعداؤه يحبونه فالعقاد يصدمك وطه حسين يراودك والحكيم يضحك علي نفسه وعلي الناس فهو يضع الطاقية علي دماغه والعصا في يده ويسحب وراءه حماراً وأحياناً يطيل لحيته وأحياناً يطيل شعره.. ثم انه يخفي يديه في جيوبه دائماً خوفاً من ان يراها أحد فيطلب منه مساعدة! ونحن أسعد حظاً فقد عرفنا الثلاثة العمالقة.. أما المفكر فهو العقاد والأديب طه حسين والفنان الحكيم وقد اختلفوا في كل شيء ولكنهم جربوا المقال وترجمة حياة «محمد» عليه الصلاة والسلام أما العقاد فقد صنع من تاريخ الرسول درعاً محكمة من الحديد.. وطه حسين جعله عباءة من الحرير والحكيم جعله من التريكو وأذكر أنني جمعت العقاد وطه حسين والحكيم علي خط تليفوني واحد ونشرت ما دار بيننا في صفحة كاملة من «الأخبار» وكان ذلك منذ سنوات حوالي 25 سنة. يقر الكاتب الكبير أنيس منصور بصعوبة أن يخرج الانسان من عباءة ذكريات الطفولة الأولي وسنوات التكوين البريئة فللمكان سحره الطاغي فيقول: كثير من البذور التي تركها ظلام الريف وحقوله وأزقته الضيقة والعواء والنباح والخوار والنقيق بقي في خيالنا يقاوم العلم والحضارة.. ويظهر في الذكريات أو في الاحلام.. أو في المخاوف التاريخية.. لقد سافرت الي أركان الدنيا جواً وبراً وبحراً.. ومن حين الي حين تقفز قصة غريبة ليس لها أساس ولا أعرف كيف ظهرت ولا تبعاً لأي منطق مثلاً: كنت في جزر هاواي أتمدد علي شاطئ وكيكي الجميل واستطعم الآيس كريم في نصف جوزة الهند فإذا بي اتذكر كفر حمص وبلدنا وذكرياتي فيها.