أدب المطاريد هو أدب من نوع خاص، سطرته دانات المدافع وطلقات الرصاص علي أوراق ملطخة ببقع من دماء، نشأ في أحضان الجبال بين الكهوف والصخور. ولم يكتب لهذه الكلمات أن يقرأها أحد سوي مَنْ سطرها وبعض المحيطين بهم، ولم يسمح لهذا الأدب أن يري النور، بل حوصر وطورد، وشنت عليه غارات قادتها ميليشيات الأقلام وبلطجية الثقافة تدعمها قوات استعمارية تزعم أنها تطارد الإرهاب وتسعي لنشر السلام. وظل أدب المطاريد حبيسًا في مجرد رسائل تتناقلها الأيدي تحت جنح الظلام حتي جاء الفرج ووجدت الكلمات المحاصرة الثغرة التي تنفذ منها إلي النور، إنه شعاع الإنترنت الذي أضاء سماء الحريات المكبوتة وأخرج الكلمات المطاردة من القمقم لتصبح مارداً يهز عروش الطغاة. ويعد مصطفي حامد الملقب بأبو الوليد المصري هو أحد رواد أدب المطاريد، بل هو أبرزهم وهو ذلك الرجل الذي عاد إلي مصر منذ أيام من إيران بصحبة محمد شوقي الإسلامبولي. كتب مصطفي حامد حوالي 12 كتاباً لم تر النور إلا بعد ظهور الإنترنت ونشرها في مدونته لكن تعرضت المدونة لهجوم القراصنة عدة مرات وأصبحت مطاردة كصاحبها. وراح أبو الوليد المصري يناور ويحاول أن يجمع حوله بعض المطاريد من أصحاب المدونات المرصودة حتي قرروا إنشاء موقع للكلمة المطاردة أطلقوا عليه موقع (مافا السياسي) ولم يكتف الشباب الذين اطلعوا علي الموقع بالفرجة، بل قرأوا وطبعوا ونشروا وناقشوا وكثر المطاريد حتي صاروا بالآلاف. ويتميز أدب المطاريد عن غيره بأن رواده من المطاريد المطلوبين، وسجلت كلماته سراً في مراسلات أو مذكرات، ربما وهم تحت ضغط أو حصار معتقدين أنها مجرد كلمات لن يقرأها غيرهم وستموت حتماً في غياهب الجبال وستدفن تحت أنقاض منزل أو خيمة ضربها صاروخ أو قنبلة، ولم يتوقعوا أبداً أن التكنولوجيا التي جاءت علي يد من يطاردهم ستكون سبيلهم في أن يقرأ كلماتهم الآلاف بل الملايين، فيقول مصطفي حامد في كتابه «15 طلقة في سبيل الله». وإذا قدر لهذا الكتاب أن يري النور - وهذا موضع شك حتي الآن - فسوف تكون هناك أجيال جديدة قد تولت زمام العمل من أجل الإسلام. أجيال سوف تكون أفضل في كل شيء سلوكاً وفهماً وعملاً. وهكذا تبشر الدلائل التي نراها الآن. وللتجربة الأفغانية دورها في صياغة هؤلاء الشباب الذين مازالوا في بطن الغيب. فالحاضر هو تربة المستقبل التي ينمو عليها ويزدهر. هذا الكتاب لن يجد أصدقاءه لا علي المستوي الدولي ولا علي مستوي القوي الإسلامية المؤثرة علي ساحة العمل الإسلامي. والحال هكذا، فالأرجح أن ترقد تلك الأوراق في قاع أحد الأدراج حتي تأكلها الفئران والعتة أو أن يجعل الله لها فرجاً وتتغير الأحوال السائدة ويقيض الله لها من يتولي طباعتها ونشرها، ربما كمخطوطة تاريخية وأثر يحمل عبق الماضي. ويومها سوف يكون كاتب هذه المخطوطة قد أفضي إلي ربه حيث لا ينفعه رياء ولا سمعة. إنها صرخة في واد قد تصل في وقت ما إلي أذن ما.. فإن أفادت فذلك من فضل الله، وإن لم تفد فذلك قدر الله، ويبقي كونها شهادة من شخص ما، كان هناك في ذلك المكان الذي شهد واحداً من أضخم أحداث العصر، وواحدة من أكبر وأهم معارك المسلمين خلال عشرات - بل مئات - من السنين أي منذ توقفت الحروب الجهادية في حياة أمتنا، وتهاوت دولة الإسلام ورابطة الخلافة. واللافت للنظر أن يظهر في أدب المطاريد شيء من السخرية مبنية علي نقد جارح لوضع سيئ بلغ من سوئه أن تحول إلي كوميديا تبكيك ولا تفرحك في محاولة لإظهار ما يتعرض له هؤلاء المطاردون من محاولات إبادة وسجلت هذه الصورة بوضوح في كتاب أبو الوليد المصري «السائرون نياماً» فيقول في إحدي فقرات الكتاب: نتكاثر بسرعة شأن الكائنات الضعيفة التي يسرع فيها الموت. هكذا هم الفقراء والمهددون في وجودهم. وهكذا نحن «المستضعفون في الأرض» من مشردي أفغانستان. وهكذا هم من سبقونا في المحنة منذ أكثر من نصف قرن في فلسطين. فمن سقط من أيديهم السلاح، أو نزع من بين أيديهم عنوة أو بمكيدة، يقاتلون مستخدمين العنصر «الديموجرافي» تعبيراً عن التمسك بالبقاء وحفظ النوع.. واستمرارية توارث «جينات» الصراع مع الظالمين. لم ينتبه هؤلاء إلي أن العالم سيخسر كثيراً بانقراضنا. فنحن بلا شك جنس نادر سيفتقده علماء «الأنثروبيولوجي» والباحثون في أصل الأنواع. إنهاؤنا سيكون خسارة علمية كبيرة، وسيلعن العلم من فعلوها، فالأمانة العلمية تقتضي المحافظة علينا في محمية طبيعية مثل جزيرة في أواسط المحيط مثلاً، حتي لا تتسرب منا فيروسات «الإرهاب الإسلامي» إلي باقي الأجناس المستأنسة في المزرعة البشرية الوادعة. ثم لا يشغلون بالهم علينا. ولتهنأ الحسناوات بعيداً عنا. فسنقتات علي الأسماك والسلاحف والزواحف. فقط فيلمنعوا عنا بنادق الصيادين، وأسواط فناني التعذيب. ويعد أدب المطاريد هو صوت المقهورين وجهازهم الإعلامي المحدود لتسجيل وإعلان وجهة نظرهم في مواجهة الولاياتالمتحدة بكل ما تملكه من أجهزة إعلامية مرئية ومسموعة ومقروءة وهو ما يظهر واضحاً في كتاب «حرب المطاريد» عندما رصد أبو الوليد المصري ما يدور من أحداث وكثف ما وراءها من أطماع استعمارية حيث يقول: أثبتت الأحداث منذ الغزو السوفيتي لأفغانستان أن ذلك البلد قد انتقل، بالتفاعل الوجداني، إلي قلب المنطقة العربية، كما أن المنطقة العربية قد انتقلت إلي هناك عبر حركة متطوعين واسعة في الثمانينيات، ثم هجرة تنظيمات جهادية في التسعينيات. وهو الأمر الذي قاد إلي أحداث 11 سبتمبر.. وهي الذريعة التي رتبتها الولاياتالمتحدة لتشن حرباً علي الدول العربية والإسلامية وتفتح أبواب التدخل علي مصراعيها في شئون العالم كله. فقد نصبت «الإرهاب الإسلامي» - عدواً بديلاً عن الاتحاد السوفيتي ليكون ذريعة لإرهاب شعوب العالم ولنهب ثرواتها والتدخل في تفاصيل شئونها السياسية والثقافية. ذكر «أوباما» 11 سبتمبر علي أنه الحدث الذي من أجله تفادي تكراره، يرسل المزيد من قواته إلي أفغانستان. فهو إذن يواصل حرب «بوش» لأجل القضاء علي تنظيم القاعدة وحركة طالبان. ولعل الكرة الآن انتقلت إلي زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن كي يفرض مبادرته هو علي ساحة الصراع الدائر. فلا يظل منساقاً بلا وعي منه في المسير ضمن استراتيجية العدوان الأمريكي. بيده الآن أن يظهر بوضوح نقاط الالتقاط والاختلاف مع حركة طالبان، ومدي مسئولية حركة طالبان عن أحداث 11 سبتمبر ومدي التطابق أو التباين بين تهديداته وبين قدراته الفعلية، والتي ظهرت واضحة علي الأرض خلال ثماني سنوات منذ أحداث سبتمبر حتي الآن. إيضاح ذلك سيظهر أن حركة طالبان لم تكن علي علم مسبق بأحداث سبتمبر وأن حماية الإمارة الإسلامية لأسامة بن لادن والقاعدة وباقي المهاجرين العرب والمسلمين كانت تطبيقاً لمبادئ إسلامية وأعراف قبيلية ممتدة إلي فجر التاريخ، وليس من أجل التجهيز والتنفيذ والتنفيذ لأعمال هجومية ضد أي طرف في العالم. ويغوص أدب المطاريد في قلب الأحداث ويكشف الوجه القبيح لمزاعم أمريكا وأوروبا في الحرب علي الإرهاب عن طريق سرد وقائع موثقة لا يمكن تكذيبها والتعليق عليها بوقائع تاريخية وجمل تحليلية منطقية تحول هذا الأدب إلي سهام تخترق العقل والقلب فيصدقها القارئ دون شكوك ولعل كتاب «حرب الأفيون الثالثة» خير شاهد، حيث جاء به: الأفيوم هو الجائزة العظمي لتلك الحرب. وكان الأفيون هو السبب الحقيقي والمباشر لشن الحر. ويشكل العائد الاقتصادي الأعظم للاقتصاد الأمريكي والماكينة البنكية هناك. وهو عائد يقدر بمئات المليارات، ويدخل ضمن دورة عظمي لتجارة وترويج المخدرات عبر العالم تقدر بآلاف المليارات للمافيا والدولة الأمريكية حصة الأسد فيها. ومنذ اللحظة الأولي لحرب 2001 استهدفت القوات الأمريكية مباشرة مزارع الأفيون العظمي في هلمند وجلال أباد وكانت خاوية علي عروشها بعد أن حظرت الإمارة الإسلامية زراعته، فتحرك الجيش الأمريكي علي الفور دفاعاً عن مصالح مافيا المخدرات. والآن يرسل أوباما تعزيزات عسكرية تستهدف طلائعها ولاية هلمند تحديداً. وبالمثل تفعل بريطانيا التي جعلت قواتها كلها - تسعة آلاف جندي - وقفاً علي هلمند فقط. وتعتزم إرسال تعزيزات جديدة إلي هناك قوامها خمسمائة جندي آخر. وهكذا وهبت بريطانيا العظمي جيوشها لخوض حروب الأفيون منذ القرن التاسع عشر في حربين ضد الصين إلي القرن الحادي والعشرين في حرب أفيون ممتدة ضد أفغانستان. ومنذ لحظة العدوان الأولي في أكتوبر 2001 وحتي الآن يؤكد العدو علي أن الأفيون هو الهدف الأول من الحرب وأن هلمند علي رأس قائمة الأهداف كونها تنتج 60٪ من أفيون أفغانستان وأكثر من كل إنتاج العالم (بشهادة الأممالمتحدة كان إنتاج هلمند يساوي صفراً قبل العدوان الأمريكي مباشرة). لقد عاد مصطفي حامد أبرز رواد أدب المطاريد إلي مصر بعد أن قضي شبابه مطارداً، عاد إلي مصر بعد ثورة 25 يناير وسقوط النظام، فهل تتوقف مطاردة كلماته هو وأصحابه ويخرج أدب المطاريد إلي الثورة بعد أن لاح فجر الحرية أم يظل حبيس الموقع لا يقرأه إلا القليل في عجالة وهم يرتعشون خوفاً؟