رغم أنني لست من دعاة إطلاق العنان للمسيرات والمظاهرات الفئوية التي تكبل حركة الإنتاج وتضعنا على حافة الإفلاس، إلا أن إنقاذ ثورتنا الشعبية يتطلب الإسراع بإنشاء محكمة دائمة للمحاسبات لأن المحظوظين بالآلاف والمرتشين بالملايين وقاع المجتمع «مسوس» ولا يمكن أن نقيم نظاما جديدا على بيئة فاسدة، فطبقا لتقرير مركز الأرض لحقوق الإنسان يوجد 3.5 مليون موظف مرتش من أصل 6 ملايين موظف حكومي في مصر، وأنه تم إهدار حوالي 39 مليار جنيه من أموال الدولة بسبب الفساد المالي والإداري؟! وأولى خطوات الإنقاذ تكمن في استقلال الأجهزة الرقابية والمحاسبية وفي طليعتها الجهاز المركزي للمحاسبات وتصحيح مسار هذا الجهاز الذي يقف في مفترق طرق الأسبوع المقبل بعد انتهاء فترة ولاية المستشار جودت الملط، فلا يعقل في عهد الثورة أن يظل جهاز المحاسبات مكبلا بلوائح وقوانين النظام البائد، ولا يقبل بشكل من الأشكال صمت الحكومة على حالة الغليان التي تتصاعد داخل أروقة جهاز المحاسبات بعدما تردد أن النية تتجه لتقنين واستمرار الوضع القائم باختيار رئيس جديد للجهاز يدور في نفس الفلك السابق «وكأنك يا أبو زيد ما غزيت». لن يغفر للحكومة تجاهل المذبحة المرتقبة داخل الجهاز إذا ما نجحت مساعي الفلول بتنصيب رئيس جديد يتبع سياسات النظام السابق، لأنه سيكون بمثابة اختيار المنتقمين من كل العناصر المناوئة، ليس فقط داخل الجهاز وإنما أيضا داخل البلاد. ولا يمكن بحال من الأحوال أيضا تجاهل البلاغات العديدة المقدمة للنائب العام ضد ممارسات الجهاز والتقارير التي تفيد تورطه في الفساد بعد نقل تبعيته في السنوات العشر الأخيرة الى رئاسة الجمهورية، وهي السنوات العجاف التي شهدت أعلى نسبة فساد في تاريخ حكم مبارك. لا يخفي على أحد أن عدم وجود نصوص دستورية تكفل استقلال الجهاز المركزي للمحاسبات، خاصة استقلاله عن السلطة التنفيذية كان له الأثر المباشر فى تمكين ترزية القوانين من تعديل قانون الجهاز وتغييره أكثر من مرة للحد من رقابة الجهاز على الأموال العامة وفقا لقانون الجهاز المركزي للمحاسبات الحالي رقم 157 لستة 1998 المعدل للقانون رقم 144 لسنة 1988، وذلك على النحو التالى: 1- تم القضاء على استقلالية الجهاز التي كان يتمتع بها بعيداً عن سلطات الدولة التنفيذية، وذلك بالنص على تبعيته لرئيس الجمهورية. 2- تعيين رئيس الجهاز بقرار من رئيس الجمهورية بإرادته المنفردة دون موافقة مجلس الشعب، لمدة أربع سنوات ينظر بعدها رئيس الجمهورية فى أمر التجديد له لمدة، أو لمدد أخرى، وذلك بحسب مدى رضا الرئيس عليه، علما بأن مجلس النواب سبق ان رفض هذا النص عند إصدار قانون «ديوان المحاسبة» عام 1942 لنيله من استقلال الجهاز. 3- أصبح عدم الرد على تقارير ومكاتبات الجهاز والتي قد تحتوي علي مخالفات تتعلق بالاعتداء على الأموال العامة قد تصل إلى مليارات الجنيهات ولأول مرة فى تاريخ الجهاز منذ إنشائه مخالفة إدارية وذلك بعد ان كانت مخالفة مالية؟! أى أن العقاب عليها سلطة تقديرية لجهة الإدارة التى لها وحدها معاقبة الممتنع عن الرد على الجهاز أو عدم عقابه، وادى ذلك النص إلى امتناع العديد من الجهات الخاضعة لرقابة الجهاز عن الرد على تقارير الجهاز التى قد تصل المخالفات بها إلى المليارات. 4- تم تركيز معظم الصلاحيات بيد رئيس الجهاز، بما يمكنه من التأثير سلبا على العمل الرقابى، كما تمكنه من قمع كل من يخالفه فى ذلك. وكان من نتيجة ذلك أننا لم نشهد تقريرا واحداً للرقابة على ميزانيات رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء طيلة السنوات الماضية، حيث منعت الرقابة على هذه الجهات، كما أن العديد من تقارير الجهاز ظلت حبيسة الأدراج ولم تقدم للنيابة إلا بعد الثورة وبناء على طلب النيابة، ومن أمثلة ذلك : • تقرير جامعة النيل ومخالفات أحمد نظيف بها. • تقرير جراج رمسيس. • تقرير مدينتى، والذى لم يخرج من الجهاز إلا بعد الحكم بإبطال العقد بناء على دعوى مواطن. • تقرير المبيدات المسرطنة والذى لم يخرج من أدراجه إلا بعد الثورة وبناء على طلب النيابة وبعد 10 سنوات من إعداد التقرير. • مليارات سكرتير رئيس الجمهورية التي لم نسمع عنها إلا في المحكمة ومن جهات لا علاقة لها بالجهاز المركزي، وكذلك حديد عز وصفقات تصدير الغاز المصري لإسرائيل. لست هنا في موقع محاسبة المقصر فقد يكون من القائمين على الجهاز نفسه، أو من سطوة المفسدين في النظام السابق، أو في آلية العمل، في النهاية المحصلة واحدة هي أننا أمام جهاز عاجز ومقيد ومتهم بالتستر على الفساد، وفوق كل ذلك تفرغ أعضاؤه في الآونة الأخيرة للمعارك الداخلية التي خلقت جوا غير صحيا للعمل بعد أن وصل بعضها للمحاكم، الأمر الذي يتطلب التدقيق في اختيار الرئيس الجديد للجهاز بحيث يكون بعيدًا تمامًا عن هذه الأطراف المتصارعة ويمنح الاستقلالية التامة للعبور بسفينة البلاد إلى بر الأمان.