قرارات رئيس الجمهورية – حتى قبل التأكد من مقدماتها وطبيعتها وآثارها – هي قرارات إيجابية وخطوة هامة بلاشك على مستويين: الأول – هو إلغاء الإعلان الدستوري المكمل الذي جعل المجلس العسكري الحاكم الفعلي وللدولة رأسان رسميان (وهذا وضع كان شديد الشذوذ لم يتواجد إلا في الحكم العسكري الصريح ولم يعرفه حتى النموذج التركي أو الباكستاني). والثاني – إرساء لعرف تغيير القيادات العسكرية من خارجها (على الأقل ظاهريا) وهذا مفيد لما بعد. وتأثيره المباشر على المجتمع المدني والعسكري سواء بسواء، إن لم يكن على القيادات ذات الدراية بطبيعة ماحدث. أما عن كيفية صدور هذه القرارات ومايتبعها من تغيير حاد في الجسد القيادي العسكري، فنحن أمام عدة احتمالات – وفي ظل نقص المعلومات المتاحة عما حدث بالفعل ودوافعه المباشرة وكيفية الترتيب له – فلايبقى أمامنا إلا الترجيحات بينها اعتمادا على تحليل المحركات والإمكانات ومايتكشف من أحداث وآثار: الاحتمال الأول – أن ماحدث كان قرار الرئيس من أوله لأخره وخطوة استباقية منه لتنحية المجلس العسكري عن الوصاية وانتزاع صلاحياته. ويقف ضد هذا الاحتمال قبول المؤسسة العسكرية بالقرارات دون أية ممانعة سواء لإلغاء الإعلان الدستوري والأخطر منه – من وجهة نظرها إطلاق يده في تغيير أهم قيادتين عسكريتين ومايكون معلوما ضمنا أن هذا الباب لو تم فتحه عنوة من الرئيس فلن يأمن قائد سلاح على موقعه (وهذا ماحدث بالفعل فقد تم تغييرهم جميعا بعد الخطوة الأولى بيومين)، ولاحتى أبدت ممانعة سياسية في ظل وجود وسط سياسي متحفّز ضد الإخوان على أقل تقدير. ثانيا – فإننا لم نسمع عن خطوات اتخذها الرئيس لتحريك وحدات عسكرية لمحاصرة واعتقال قيادات، فضلا أنه لايملك إلا لواء الحرس الجمهوري والذي لم يُحكم سيطرته عليه بعد (السادات كان ابن المؤسسة العسكرية وعضو مجلس قيادة للثورة ونائبا لعبد الناصر – أي حائزا على شرعية ناصرية كثيرا ما استخدمها – ومع ذلك بقي لمدة بضعة أشهر حتى استطاع استخدام الحرس الجمهوري). ثالثا - أن الرأس (البديل) للمؤسسة العسكرية هو مدير المخابرات الحربية ،وهو ليس قائد سلاح – وهذا ينطبق على العصار أيضا – ومعنى هذا أنه لابد من وجود تمهيدات مع قيادات الصف الثاني في الأسلحة للقبول بمثل هذه الخطوة (الانقلابية) ولمنع تحركها – بشكل ذاتي أو مدفوع- لإجهاض هذا التغيير في الجسد القيادي العسكري. لاننس أننا نحكي هنا عن مؤسسة عسكرية لاترى نفسها بأي حال خاضعة للرئيس أو للجماعة التي أتى منها؛ بل تشعر بنوع من النفور على أقل تقدير. رابعا – أن القائد العام الجديد كان يدير الأداة المباشرة للمجلس العسكري طيلة عام ونصف في احتواء الثورة كمسار سياسي وبعض النخب، وفي التصدي لكثير من حالات الفعل الثوري والتورط في التصفية المباشرة كانت المخابرات العسكرية، فنحن لانحكي عن قيادة حمائمية في مقابل قيادة من الصقور بأي حال من الأحوال. نلاحظ كذلك أن العرف السائد كذلك أن القائد العام يأتي من سلاح ثقيل – وفي الحالة المصرية يكون في الأغلب المشاة. ربما في حالات أحمد إسماعيل وأمين هويدي كانا من المخابرات العامة، ولكن خبرة المشاة الكبيرة كانت حاضرة، وكذلك كان تعيينهما في لحظات أشبه بانقلاب داخلي في المؤسسة العسكرية كما هو حادث الآن. وهذا يقودنا للاحتمال الثاني – وهو أن مثل هذه الخطوة قد تم التدبير لها من داخل المؤسسة العسكرية لبضعة أشهر على الأقل، وساعد في هذا وضعية مدير المخابرات العسكرية وتغلغله في سائر الأفرع والطبقات القيادية على مستوى الاتصال والمعلومات. في هذا الاحتمال – حدث نوع من التواصل والتوافق بين القرص الصلب الجديد للمؤسسة العسكرية وبين رئيس الجمهورية الذي ارتأى في هذا إيجابية كبيرة وخطوة قدريّة في هذه الأيام ذات النفحات لإزالة أكبر رأسين بالمؤسسة (خصوصا عنان)، وفي إلغاء الإعلان الدستوري المكمّل ومافي ذلك من فوائد سياسية عامة وخاصة. وقبول هذا القرص (ويمثله السيسي والعصار) بإلغاء الإعلان يمكن تفهّمه كذلك في إطار شذوذ الإعلان نفسه كحالة لم تكن موصوفة للحالة المصرية المستقرة، وبعد التأكد من وجود مجلس أمن قومي تنفيذي بالدستور وضمانات الخروج الآمن وعدم النبش في انتهاكات العسكر الحقوقية. ومايعزز هذه الصيغة تطبيقيا هو قبول الأمريكي بها من كل النواحي – سواء علم بها قبل حدوثه وساهم فيها أو لم يعلم، من ناحية بقاء نخبة عسكرية غير متعنتة مع الأجندة الأمريكية (بالعكس هي الأقرب)، ومن ناحية الشكل الديمقراطي، ومنا ناحية الاطمئنان المتزايد للمسلك السياسي الإخواني الذي يقلل من الحاجة للأداة العسكرية الوصيّة على المسار السياسي (هي ستبقى ولكن ليس بذات الدرجة وعلى اتساع الملفات). حتى الموقف الإسرائيلي فأغلب المعبرين عنه لايرون فيما حدث خطوة عدائية، ربما لتقييمهم للمسار السياسي للرئيس وكذلك للقيادات العسكرية الجديدة. وتبقى هنا فئة أقل عددا من الاستراتيجيين بالدولة العبرية ترى فيماحدث خطرا وتُحرّض على الدولة (الإخوانية). الاحتمال الثالث – وهو أضعف الاحتمالات – أن تفاهما قد حدث مع طنطاوي وعنان على خروج آمن والسماح بهذا التغيير في الدماء القيادية العسكرية من داخل المؤسسة ذاتها وبتدبيرها. ويقف ضد هذا بشدة أن رغبة الخروج الآمن إن كانت موجودة عند طنطاوي فهي ليست موجودة عند عنان ولاعند قادة الأفرع، صحيح أن الرئيس لم يغير قادة الأفرع مباشرة، ولكنه كان سيصبح تحصيل حاصل بعد أن راح الرأس. كذلك – فإن الخروج على هذا النوع فيه شيء من المهانة لاتقبله القيادتان الكبيرتان (حتى مع قلادة الرئيس). الآثار ومايأتي بعد نأتي هنا لتحليل الآثار ومايمكن أن يحدث. ونحن نحتاج وقتا بالفعل لاستيعاب ماحدث وطبيعة الصيغة الناشئة بين الرئيس (ومجموعته السياسية) والقيادة العسكرية والضمانات المتبادلة – الظاهرة والضمنية – بينهما، ومتابعة مايحدث في الدستور وسلوك القيادة العسكرية الجديدة. ولكن عندنا ملفات أساسية ستبقى شائكة في استيعاب تطور العلاقات المدنية العسكرية وأثرها على التحول الديمقراطي وتحقيق الأهداف الثورية: 1. الدستور، وهل سيحتوي على مجلس أمن قومي (دفاع وطني) تنفيذي وهذا هو المرجح، وماهي طبيعة تشكيله وحدود دوره وتدخلاته. 2. مجلس الدفاع الوطني المشكل حاليا والذي هو مجلس عسكري بشكل فج (مجلس الأمن القومي التركي قبل أردوغان مثلا كان به خمسة عسكريون، وخمسة مدنيون منهم رئيس الجمهورية). 3. المحاكمات للنظام القديم، والمحاسبة على انتهاكات العسكر الحقوقية والسير الجاد في مشروع للعدالة الانتقالية والانتصاف لدماء الشهداء. 4 . دور المخابرات العسكرية في الشأن المدني (خصوصا مع وصايتها على جهاز الأمن الوطني) وعلاقتها بالمخابرات العامة (خصوصا بعد تركيع الأخيرة بعزل مديرها) وعلاقة الجهازين مع مؤسسة الرئاسة والجهاز التنفيذي والبرلمان في المستقبل. 5. المحاكمات العسكرية للمدنيين خصوصا مع بقاء النص المعيب في قانونها، حتى إن لم يتم تفعيلها في هذا الظرف الآني. 6. وظائف الدولة المدنية وحجم الكوتة التي يأخذها العسكر وطبيعتها في الشركات القومية والمحافظين والوزارات الهامة. 7. إمكانات التدخل العسكري في المسار السياسي السلطوي بدءا من عقد تحالفات مع قوى سياسية حزبية (بما فيها الحزب الحاكم أو معارضة ناشئة) وصولا لفرص عمل انقلابي مستقبلي على السلطة المدنية. وهذا هاجس سيبقى حاضرا على الأقل لسنين. 8. باب الموازنة العسكرية واقتصاد الجيش وضرورة الرقابة الفعلية على الموازنة ودمج اقتصاد الجيش باقتصاد الدولة. 9. الإدارة الفعلية على الأرض للملفات السيادية – وماأوسعها في الشأن المصري، ومدى قدرة المؤسسة العسكرية وأدواتها في التدخل لإرغام السلطة المدنية على حزم معينة من القرارات – حتى وإن لم يتمأسس ويتدستر هذا الدور. نلاحظ أنه لايوجد مجلس أمن قومي تنفيذي في باكستان (التي تم استيراد السفيرة الأمريكية الحالية بالقاهرة منها لخبرتها في هذا الشأن) ، ولاينص الدستور في الأحوال العادية على دور وصاية للمؤسسة العسكرية ويحق للرئيس تعيين وعزل القيادات (رسميا)، ومع ذلك تبقى الوصاية حاضرة بشكل فعلي. 10. التوازن بين ماهو سياسي وماهو مهني في السياسة العسكرية (بما فيها التعيينات وقواعد الترقي والانتخاب المهني مثلا) خصوصا ونحن نحكي عن مؤسسات سيادية لم يستقر قوامها المهني بعد، بمعنى - مدى احتمالية حدوث تسييس لبعض أفرع وأنشطة المؤسسة العسكرية واختراقها سياسيا من هذا الطرف أو ذاك مع تطور حالة الحراك السياسي التنافسي ومدى النجاح أو الفشل في التجربة الإخوانية في الحكم. كل هذه الملفات هي الملفات العاجلة التي تهتم بها مرحلة الانتقال الديمقراطي، وليس مرحلة التثبيت الديمقراطي التي قد تستغرق أعوما. فالأولى تهتم بالملفات التي تُعنى بمنع الارتداد عن الديمقراطية والحكم المدني ولابد أن تستغرق وقتا وجيزا وتتم بشكل حاسم وناجز، أما الثانية فهي تأخذ وقتا طويلا وتُعنى بقدرة السلطة المدنية ذاتها على إدارة الشأن العسكري الصرف وملفات الاستراتيجية العسكرية والعقيدة القتالية وتعيين المهام، وملفات التسليح تفصيليا، ومهام التغيير المؤسسي والإصلاح وإعادة هيكلة وإصلاح المناخات والبنى الداخلية. في هذه الملفات الشائكة قد تتم ولادة نموذج مصري خاص في العلاقات المدنية العسكرية يُراوح مكانه بين النموذجين التركي والباكستاني، وتستطيع المؤسسة العسكرية الحفاظ على هيمنتها على الشأن السيادي وتمديده حتى وإن لم تتدخل في التدافع السياسي المدني، اللهم إلا بتغيير مكونات المشهد السياسي ذاته ليصبح أكثر ديمقراطية في تمثيله للإرادة الشعبية ،وأكثر تعبيرا عن الساحة الوطنية، ومدعوما أكثر بضغة شعبي منحاز للهيمنة المدنية والديمقراطية على المؤسسة العسكرية، وأكثر شفافية ووضوحا في رسم أبعاده و تفاهماته البينية.