ما بين إزاحة حازم ابواسماعيل وعمر سليمان وخيرت الشاطر من خوض السباق الرئاسي في مصر، وعزل وزير الدفاع ورئيس الأركان، مروراً بعزل قائد الشرطة العسكريّة ومدير جهاز المخابرات العامّة؛ جرت وقائع الفصل الأخير، ورُبّما الحاسم؛ في صراع الإسلاميين والعسكر، والذي جرى على امتداد العالم العربي والإسلامي، وحفلت به أكثر سني القرن العشرين. لقد نشأت الدولة ما بعد الكولونياليّة في العالم الإسلامي كدولة بوليسيّة؛ يقوم فيها الجيش 'الوطني' الذي أنشأته القوى الاستعماريّة، بدور جيش الاحتلال في الحفاظ على مصالح القوى الكُبرى، سواءً كان واعياً بذلك أو غير واع. وإذا كانت الدول المملوكيّة قد استمدّت شرعيّتها من قيامها بدور الجماعة الوظيفيّة العسكريّة، التي حمت هذه البقعة من العالم الإسلامي من الخطر الخارجي ممثلاًً في الاجتياح المغولي، والغزو الصليبي، فإن الأنظمة العسكريّة التي ابتُليت بها تركيا ومصر وباكستانوالجزائر، على وجه الخصوص، قد استمدَّت شرعيّتها من حماية القوى الكُُبرى من خطر الحركات الوطنيّة والتحررية؛ خصوصاًً تلك العاملة تحت لافتة الإسلام. وطوال القرن العشرين، لعب العامل الخارجي ومواقف الغرب الدور الرئيسي في 'تحديد' شكل العلاقة الإشكاليّة بين الإسلاميين والعسكر. ذلك العامل الذي لا يُمكن ردّ كُل شيء إليه وكأن الطرفين مُجرد دُمى، كما لا يُمكن قطعاً الحط من شأنه أو تجاهُله كُليًّا؛ وكأننا قوى عُظمى مستقلّة. لقد أسهم ذلك الدور، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تشكيل الواقع السياسي، وذلك باعتبار الغرب طرفاً صاحب مصلحة. لقد خاضت جميع الأطراف، التيارات الإسلامية والعسكر والجيوب العلمانيّة والغرب، خاضت صراعاتها بأكثر من منطق وبأكثر من نموذج قيمي قد تصل لدرجة التناقُض داخل المعسكر الواحد. ومن ثم لا يُمكن اعتبار أحدها ضحيّة طوال الوقت أو رابحاًً طوال الوقت. فقد تتفق مصلحة طرفين ما -أو أكثر- على وضع مُعيّن، ولو لم يُُساهما في خلقه مباشرة، إلا أنهما قادرين على التعاون في ظلّه، والاستفادة منه، بل وتوظيفه لصالحهما ما دام المكسب الذي سيجنيه كُل طرفٍ أكبر مما قد يجنيه من صراعهما أو من تحالُف أيهما مع طرف آخر، ليُشكِّل هذا المكسب إطار تفاهُمٍ قد لا يكون مُعلناً. فمعيار السياسة الدوليّة الأوحد في عصر المركزيّة الغربيّة هو المصلحة، سواءً كانت سياسيّة أو اقتصاديّة أو عسكريّة. هذه المعادلة تعرفها الأطراف الداخلية، بل وتؤمن بها إيماناً عميقاً يشهد عليه الشدّ والجذب بين نظام مبارك والأميريكان حين تعارضت مصالحهما بشكل مُلفت خلال العقد الأخير، لأسبابٍ عدة كان أهمها ملف توريث السُلطة. لكن ذلك الإيمان ينخلع من جذوره مُخلِّفاً رائحة 'إلحاديّة'، إذا ما حوّل الطرف الخارجي وجهته لطرف داخلي أكثر حيويّة وأكثر قُدرة على تحقيق أهداف التحالُف وتعظيم المكاسب للطرفين. فيبدأ الطرف 'المنبوذ' الذي قلَّب له 'الحلفاء' ظهر المجن، يبدأ بالطنطنة والشنشنة عن 'المصلحة الوطنيّة' و'العمالة' و'التدخُّل الأجنبي'. ورُبّما كان تنكيل مُبارك بأيمن نور شاهداً يصدق ما ذهبنا إليه. إن سعي كلا الطرفين (الداخلي والخارجي) للتحالُف في إطار مفهوم 'المصلحة' النسبي السائل، يجعل من فكرة 'المصلحة الوطنيّة' مُجرَّد تضليل لا يعدو كونه صياغة مصلحة الطبقة الحاكمة ورؤيتها أيديولوجيًّا، لتعبئة الجماهير المغيَّبة ضد مُعارضيها. إن تغيُّر 'المصلحة الوطنيّة' ما بين ليلة وضُحاها لا يجعل منها قيمة ثابتة تتغيّر حولها السياسات بتغيُّر الزمان، بل يجعلها مطية للمتغلِّب، وغنيمة يتحلَّب لها ريق كُلّ مغامر. لقد عجز مفهوم 'المصلحة الوطنيّة' عن تمثيل محور ارتكاز بسبب النسق المادّي المرتبط بطبيعة الدولة الحديثة، ذلك النسق الذي عجزت فيه 'الدولة الوطنيّة' ما بعد الكولونيالية عن الاحتفاظ بمركزيّتها، فأزاحها 'السوق' بغير جهدٍ يُذكَر. إن الصراع السياسي في عصر المركزيّة الغربيّة ليس بصراع مبادىء عُليا يتم تشكيل الواقع طبقاً لها، بل هو صراع مصالح تقوم فيه هذه المصالح ذاتها بتشكيل منظومته القيميّة القابلة دائماً للتغيُّر، والتي تدور كلها في إطار علماني حلولي واحدي، ولو كان أطرافها جميعاً من ذوي اللحى الرُكَّع السجود. بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وإعلان الحرب الأميريكيّة على ما وصِف ب'الإرهاب'، وعلى عكس المتوقَّع؛ تنامت الموجة العدائيّة للولايات المتحدة، وبلغت بعض ذُراها إبّان غزو واحتلال العراق وأفغانستان. تلك الموجة التي أعادت للأذهان، بإفرازاتها 'الراديكاليّة'، ذكرى الجهاد الأفغاني للسوفييت. وعلى حين افتقد 'جهاد' ما بعد أحداث سبتمبر لدعم الدول العربيّة والإسلاميّة، بل وكانت هي أحد أهدافه، باعتبارها دولاً عميلة، فقد تسبب ذلك الوضع في اضطراب وتخبُّط سياسات الولاياتالمتحدة طوال النصف الاوَّل من العقد الأول للقرن الحادي والعشرين، بعد اكتشافها مدى ترهُّل 'الحُلفاء' القدامى، الذين بدا عجزهم واضحاً عن تحييد أو احتواء الظاهرة المسلَّحة التي ساهموا جميعاً في تطويرها قبل عقدين. ومن ثمّ، بدأت رحلة البحث عن حُلفاء جُدد، أكثر شباباً وأوفر قُدرة. فجاء الدعم الأمريكي لإجراء أول انتخاباتٍ رئاسيّة 'تعدُديّة' في مصر بعد فوز الإخوان بحصّة غير مسبوقة في برلمان 2005؛ جاء مُكمّلاً لسياق عمليّة البحث. كانت أدبيّات وتقارير المؤسسات البحثيّة الأميريكيّة قد بدأت تتحدَّث ليس فقط عن مساعي بناء شبكات من الإسلاميين 'المعتدلين'، بل عن استراتيجيّة شبه رسميّة لدفع أكبر قدر ممكن من الإسلاميين ل'الاعتدال'، بدمجهم في العمليّة السياسيّة، وهو ما أثبتت حماس إمكانيّة حدوثه بعد فوزها الكاسح في الانتخابات التي دعم جورج دبليو بوش نفسه إجرائها من نفس المنطلق الاستراتيجي: الدمج لصالح 'الاعتدال'. لم يكُن الغرب يُخفي إعجابه بالنموذج الماليزي الذي طوّره مهاتير بن محمد؛ والذي دمج ماليزيا كُليًّا في الاقتصاد الرأسمالي، واحتوى الجوع 'الأيديولوجي' بابتعاث عشرات الآلاف من أبناء الملايو للدراسة في الأزهر 'المعتدل'، بعيداً عن قُطبي التطرُّف: السعوديّة وإيران.بل ولم يتخلّ الغرب عن تشككُه في إمكان تصدير النموذج، حتّى وهو يرقُب بدهشة صعود حزب العدالة والتنمية في تركيا. تلك الدهشة التي لم تخلُ من إعجاب، بل وتشجيعٍ بدأ على استحياء وانتهى علنيًّا. كان أردوغان وصحبه المؤشِّر الذي سيُعيد تشكيل الاستراتيجيّة الأميريكيّة في الشرق الأوسط. لقد استطاعوا تحقيق الإجماع اللازم لدعم مشروعاتهم ذات الطبيعة العلمانية 'المحافظة'، وازداد اندماجُهم في المنظومة الرأسماليّة الغربيّة بتوالي نجاحاتهم في تفكيك الدولة الشوفينيّة الصلبة، بفسادها، لحساب دولةٍ رخوة. لم يكتفوا بتفكيك وتحييد المؤسسة العسكريّة حارس الكماليّة وسط تصفيق الغرب الجذل، فحسب، بل عملوا على تنمية الإجماع الشعبي. والأهم من ذلك كُلّه أنهم ليسوا معادين للغرب، ولا لنمط معيشته الاستهلاكي، بل يطمعون في اللحاق بركبه. لقد كانت هذه هي نقطة التحوّل التي أثبتت إمكان دعم وتطوير 'إسلام ديمقراطي مدني' متوافق مع 'الحداثة الغربيّة، إسلام أمريكي. كان عامل الترجيح الأهمّ لميزان هؤلاء الإسلاميين هو إيمانهم باقتصاد 'السوق الحُرّ'، ومن ثمّ ترحيبهم بدمج الاقتصاد 'الوطني' في المنظومة الرأسماليّة العالميّة، واستكمال تفكيك بقيّة الجيوب الصلبة في الدول المهلهلة التي وصلوا لحكمها، لاكتمال تحوّلها للرخاوة (ورُبّما بعض الرخاء!)، وذلك برغم ديباجاتهم التي تنطوي على قدر من الصلابة، لزوم الاستهلاك المحلّي والتنظيمي. لقد حوّل الغرب وجهه عن الجيوب العلمانيّة التي ساهم في تمويلها لعدّة عقود، لسبب بسيط؛ وهو أنها بلا شعبيّة، فهي محض تجمُّعات نخبويّة لا قُدرة لها على الحشد. إن أهميّة القاعدة الشعبيّة في هذه المرحلة من مراحل الدمج؛ هو أن التفكيك الكامل والنهائي للدولة، كمركز، لحساب 'السوق'؛ يجب ألا يُسفر عن فوضى كاملة وسيولة شاملة كما أفرز نظام مبارك، بل يجب وضع سيادة القانون في المركز المؤقَّت، لإكساب النسق بعض الصلابة التي تضمن له قدراً من التماسُك وعدم التشظّي، ومن ثمّ تعظيم الفائدة للأطراف المتحالفة. وبما أن سُلطة القانون لا وجود لها فعليًّا في الشارع المصري، فليس أفضل من فرض ذلك على المجال العام بإجماعٍ يُعيد للقانون سُلطته رويداً رويدا من خلال ممارسة الأغلبيّة ... البرلمانيّة. لقد مرّت علاقة الإسلاميين بالعسكر، بمراحلٍ ثلاث رئيسيّة: مرحلة صلابة الدولة القوميّة الحديثة، والإقصاء الكامل بل استئصال كل من تعذر دمجه في آلة الدولة، كما يتجلّى ذلك في التجارب الناصريّة والبعثيّة؛ احتذاءًا للنمط الكمالي. ثم مرحلة اللعب الحُرّ، والتي كان من أبرز سماتها استخدام الإسلاميين وتوظيفهم، كما تجلّى في تجربة السادات في مصر وضياء الحق في باكستان، وحتى جنرالات الجزائر في 'العشريّة الحمراء'. وقد تميّزت هذه المرحلة بمحاولة العسكر الحفاظ على 'توازُن' الردع، الذي بدأ يتخلخل بتآكُل شرعيّة الدولة القوميّة، فشهدنا محاولات للتهميش بل وللاستئصال، لهذا الغرض. ثم جاءت مرحلة مُبارك التي برز فيها غياب البُعد السياسي وسيطرة الهاجس الأمني بعد تغوّل نمط 'السوق'، واكتمال تراجُع منظومة القيم القومية العضوية بصلابتها وشلل ذراعها القانوني. وقد تجلّى ذلك في رخاوة المجلس العسكري في مصر، ومن قبلها تراجُع قُدرات برفيز مشرَّف في باكستان قبل تنحيته، وتنامي قُدرة الإدارة التركيّة المدنيّة المنتخبة على تفكيك المؤسسة العسكريّة الكماليّة العتيدة. ليُكتب الفصل الأخير في الكتاب الأسود لهيمنة العسكر على السُلطة في مصر؛ بعزل القيادات الكُبرى، الواحد تلو الآخر، لحساب قيادات 'شابّة' لا تختلف كثيراً في نوع التوجُّهات وخريطة الولاءات، بقدر ما تختلف في تحلّيها بالقدر اللازم من السيولة، وتفهُّمها لطبيعة اللحظة التاريخيّة، بانضوائها طوعاً تحت قيادةٍ مدنيّة. رُبّما لم يكُن المجلس العسكري المعزول راغباً في السُلطة، لكنه بالتأكيد لم يكُن راغباً في مواجهة إجماعٍ شعبيٍّ حقيقيّ على رئيسٍ مُنتخب. فالإجماع الجارف وشبه المطلق الذي كان من الممكن أن يتمخَّض عنه صراع العمالقة الثلاثة الذين تمّت تنحيتُهم؛ قد يُهدد مكتسبات القيادات التي أسنت في مناصبها، ويؤدي لتقويض تلك المكتسبات بأسرع مما قلَّم الأتراك أظافر مجلس أمنهم القوميّ، بل وقد يُعيد ذلك الحشد إخضاع المؤسسة العسكريّة كرهاً لمؤسسة الرئاسة المدنيّة، فيُفتقد التوازُن المطلوب. وقد تلاقت هذه الإرادة مع مصلحة الطرف الخارجيّ، فاحتشاد الشعب خلف مُرشَّحٍ واحد (ولو كان غير مُعادٍ) مُثيرٌ لرُعب الأطراف كافّة، إذ أن هذه الأغلبيّة الكاسحة الواثقة قد تؤدّي لارتدادات أيديولوجيّة غير متوقّعة. وإذا كانت الأطراف جميعها قد اتفقت، ولو ضمناً، على الاحتكام للصندوق، فإن حجم الإجماع ونسبة الفوز التي سيُحققها أي مُرشَّح ينبغي أن تظلّ في حدود 'المقبول'، أغلبيّة بسيطة. لهذه الأسباب، ولأسباب أُخرى أقلّ أهميّة، تمت إزاحة ثُلاثي العمالقة من السباق الرئاسي لئلا ترتفع درجة حرارة السباق ويتحوّل لمعركة فعليّة تُسفر عن فوزٍ لا يُمكن الطعن في شرعيّته، فوز يُعزز الموقف التفاوضي لطرف على آخر في مفاوضات الخروج امن. ويمكنني بقدر من التحفُّظ الاتفاق مع ما ذهب إليه البعض من أن 'الربيع العربي' هو نهاية لحقبة الحادي عشر من سبتمبر، بل وأضيف إلى ذلك نهاية للدولة ما بعد الكولونياليّة بصورتها الكلاسيكيّة، ونهاية للإسلاميين التقليديين كما عهدناهُم طوال القرن العشرين، وبداية لحقبة جديدة من توازُن القوى الوليدة داخليًّا وخارجيًّا، مرحلة انتقاليّة رماديّة لا تعرف رابحاً أوحد ولا خاسراً أوحد، ولا يُمكن بأي معيار اعتبارها فوزاً للإسلاميين.