تكشف موازنة الدولة للعام 2012-2013 أن الوعود المتعلقة بتحسين الأجور لن تتحقق. ساعد على ذلك أن إقرار الموازنة جاء في السر من قبل المجلس العسكري، بدون أي نقاش عام. هذه هي الموازنة العامة الثانية التي يقرها المجلس العسكري منذ ثورة يناير2011. وقد فشل للعام الثاني على التوالي أن يعكس من خلالها أهم أهداف الثورة: الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. أما الديمقراطية، فقد أعدت الموازنة حكومة غير منتخبة، ولم يتسن للمصريين التعرف على ملامحها، ولا لمجلس الشعب المنتخب، ولا الرأي العام أن يناقشها ويعدل فيها ما شاء. فما كاد المهندس سعد الحسيني رئيس لجنة الخطة والموازنة أن يتصل بالخبراء ومنظمات المجتمع المدني المعنيين بالموازنة لكي يشتركوا مع أعضاء اللجنة -حديثي العهد بملف الموازنة- في نقاشات مفتوحة حول بنود الإنفاق العام وموارد الدولة، حتى أصدر المشير طنطاوي قرارا بحل البرلمان، وإذا بالمجلس العسكري يسيطر على سلطة التشريع. وبعد أن استلم الرئيس المنتخب السلطة التنفيذية بيومين اثنين، أقر العسكري الموازنة بدون أن يراها أحد، لا صحافة ولا متخصصون، ناهيك عن أفراد الشعب الذين يمدون خزائن الدولة بالأموال التي تنفقها. وتلحظ المنظمة المصرية للحقوق الشخصية والاقتصادية أنه "سيكون على الحكومة الجديدة محل التعيين من الرئيس المنتخب حديثا تنفيذ بنود موازنة لم تضعها أية جهة منتخبة". هذا عن غياب الشفافية والديمقراطية، فماذا عن العدالة الاجتماعية؟ لا تنفصل قضية الشفافية والمشاركة عن تحقيق العدالة الاجتماعية. فكلما شارك عدد أكبر من المواطنين في إعداد الموازنة، وكلما تعددت مشاربهم ومصالحهم، كلما جاءت الموازنة في صالح الشرائح الأعرض والأكثر احتياجا. ولنا مثل في الحد الاقصى والأدنى لأجور العاملين في الجهاز الإداري للدولة، والتي كانت من المطالب القليلة التي أبدت حكومات ما بعد مبارك نية لتحقيقها. فكيف انعكس ذلك في موازنة العام 2012-2013؟ يبدو لأول وهلة أن بند الأجور في الموازنة شهد زيادة كبيرة. حيث زادت مخصصات الأجور بنسبة تفوق 20%، ليصل إلى 136,7 مليار جنيه. وتعد نسبة الزيادة أكبر من زيادة الإنفاق العام الإجمالي، كما تتعدى متوسط معدل التضخم السنوي (كلاهما متوقع أن يكون في حدود 8%). فهل يعني ذلك بداية تحول في ذهنية واضع السياسات العامة؟ مع الأسف .. لا! بل على العكس، يلعب غياب الشفافية والمشاركة الشعبية دورا كبيرا في بقاء سياسات حقبة مبارك الظالمة. فعلى سبيل المثال، هذه الزيادة في مخصصات الأجور ما هي إلا لتحويل جزء من العلاوات السنوية إلى المرتب الأساسي المؤمن عليه، وهو إجراء متبع منذ سنوات حيث أن المرتب الأساسي المؤمن عليه لا يمثل سوى خمس اجمالي الدخل لدى العاملين في الدولة. وفي هذا العام المالي، "يتم ضم علاوة 2005-2006، والتي بلغت رقما مرتفعا بشكل استثنائي وهو 30%، أي ضعفي النسبة المعتادة (أقرها مبارك لأسباب انتخابية، ولتمرير التوريث)"، كما يشرح عبد الفتاح الجبالي، الاقتصادي المتخصص في إعداد الموازنة. لكن في مقابل هذا الإجراء، تجاهلت الحكومة في سرية تامة وعدا آخر بزيادة سنوية للحد الأدنى للأجر. كانت الثورة قد منحت العاملين بأجهزة الدولة حدا أدنى 700 جنيها على أن يزيد تدريجيا ليصل إلى 1200جنيها خلال خمس سنوات. ولكن جاءت الموازنة الثانية بعد الثورة خالية من مخصصات لهذا الوعد. ولا يخدعنك أحد بأن تلك المخصصات ارتفعت إلى 7,1 مليار جنيه مقارنة بنحو 5,4 مليار جنيه فاتورة العام الماضي. فما تلك الزيادة إلا لاستيعاب مئات الآلاف من العاملين بلا عقود، منحتهم الدولة عقودا دائمة، بعد مطالبتهم العنيدة بحقهم، وصارت ملزمة بالتالي منحهم مرتبا لا يقل عن 700 جنيها أسوة بزملائهم. وهكذا في غياب أي مناقشة للموازنة العامة، لم يلحظ أحد هذا النكوص، لا من المتخصصين، ولا من البرلمانيين ولا حتى أصحاب الشأن أنفسهم. وبالمثل، استمر انعدام الشفافية جليا في أجور الهيئات والمؤسسات السيادية في الدولة. أولا، وللعجب، لا تبحث عنها في بنود الموازنة، فلن تجدها إلا بمساعدة خبير. فهي مخبوءة تحت بند في أسفل صفحة الأجور يسمى "أجور إجمالية"، كرقم إجمالي للمؤسسات الخمسة، بدون أي تفاصيل عن كل منهم. هذا المبلغ يزيد بنسبة 20% عن العام الماضي. هذه المؤسسات هي القوات المسلحة، الداخلية، مجلسا الشعب والشورى والهيئات القضائية، رغم فرض الحد الأقصى للدخل. وإجمالا، يتقاضى العاملون في هذه المؤسسات الخمس 6% من إجمالي الأجور في جميع أجهزة الدولة، ولا توجد أي معلومات عن توزيع هذا المبلغ بين المؤسسات ولا عن تفاوت الأجور داخل كل مؤسسة. أخيرا، لم ينعكس قانون الحد الأقصى للدخل والذي أقره البرلمان المنتخب وحدده ب35 ضعفا للحد الأدنى على تحقيق أي وفورات أو توزيع أفضل للدخول على نحو يظهر في الموازنة، مما يعطي الانطباع بأنه لن يدخل حيز التنفيذ. ويشرح الجبالي أنه نتيجة لغياب الشفافية، يتقاضى كبار المسئولين بالدولة مكافآت خيالية "من خلال مليارات الجنيهات من المعونة الأجنبية، والتي لا تظهر أصلا في الموازنة". مما يجعل من الصعب متابعة أثر هذا القانون. كان أول وزير مالية بعد الثورة، سمير رضوان قد أعلن أن الحد الأقصى للدخل للموظف العام يساوي 1000 ضعف الحد الأدنى للدخل، للإشارة عن تفاوت رهيب في الدخول داخل الجهاز الحكومي. وهكذا، فليس من المستغرب أن تقبع مصر في المرتبة 49 من مائة على مؤشر شفافية الموازنة والذي تعده منظمة مشاركة الموازنة الدولية. كما ليس من المستغرب أن تظل العدالة الاجتماعية "الأولوية المؤجلة"، كما تسميها المنظمة المصرية للحقوق الشخصية والاقتصادية. وما الأجور سوى مثال واحد.