ظاهرة التلاعب بالإحصائيات وضعها الروائي الاميركي الشهير مارك توين، باسلوبه الساخر المعهود، في ذات مرتبة الكذب. اذ قال مرة هناك ثلاثة انواع من الاكاذيب: الاكاذيب واكاذيب اللعنة والاحصائيات. اجواء الانتخابات الرئاسية الراهنة، المتميزة بحدة الاستقطاب والمبالغات، ينطبق عليها قوله: الاكاذيب واكاذيب اللعنة واحصائيات استطلاعات الرأي. غالبا ما يقع المرء في حيرة اختيار افضل استطلاعات الرأي حصافة للتماثل مع نتائج الانتخابات الفعلية؛ وهي مهمة شاقة اكبر مما يظهر للعيان. بيد انه ينبغي الاخذ بعين الاعتبار ثلاث عناصر: هوية المجموعة المشرفة على الاستطلاع، الجهة الراعية، والعوامل الداخلية. شهدت الساحة السياسية الاميركية منذ بضع سنوات ظاهرة بروز مجموعات عدة وظيفتها قياس التحولات في الرأي العام، لا سيما مع تعاظم اعتماد الحملات الانتخابية على استطلاعات الرأي كعنصر اساس لرسم استراتيجية بعينها او ادخال تعديلات بالتساوق مع المزاج الشعبي. واستغلالا لهذه الثغرة، التي تدر اموالا خيالية على اصحابها، لجأ البعض منها الى اعلان مبكر للنتائج بغية تثبيت مركز المعني على الساحة السياسية. كما ان النتائج المذهلة التي يتوصل اليها بعضهم تثير الانتباه وخفة الاستناد اليها. في المقابل، نجد مراكز استطلاعات الرأي التقليدية، غالوب وهاريس، والتي احترفت المهنة منذ عدة عقود من الزمن، أرسى كل منهما مفهوما يدل على المنهجية العالية والجهود المضنية التي تبذل لاجراء عملية الاستطلاع بمهنية يشهد لها. الطارؤون الجدد على الساحة، مثل مركز راسموسن، تشرع في اجراء استطلاعات يومية لتمويل دخلها المالي بواسطة اشتراكات للحملات الانتخابية باهظة الثمن ، وتحرص على عدم تعريض سمعتها للانتهاك. وقد ارست بمجموعها سمعة طيبة لدقة نتائج استطلاعاتها المقاربة للنتائج النهائية. إضافة لما تقدم، ينبغي النظر الى عامل الجهات الراعية والممولة للاستطلاعات، اذ تبرز المؤسسات الصحفية في مقدمتها، والتي عادة تفتقد الى الدقة وتطرح نتائجها جانبا. فعملية الاستطلاع لديها عادة تجري لدعم موضوع محدد تتناوله صحيفة معينة، لتأتي النتائج بصورة تعزز فرضية الموضوع المراد نشره. وعلى سبيل المثال، تناول موضوع الحد من اقتناء السلاح الشخصي يستند الى استطلاع للرأي ترعاه المؤسسة المعنية وتأتي نتائجه لتدعم فرضيتها بان غالبية الاميركيين يؤيدون تقنين اقتناء السلاح. ولو ارادت صحيفة ما اظهار شراسة سباق حملة الانتخابات الرئاسية، تجري الاستطلاعات لتأييد الفرضية بنسبة عالية. تكلفة عملية الاستطلاع عادة تُأخد بالحسبان الى جانب طبيعة الشريحة المستهدف استطلاع آرائها والتي قد تصل تكلفتها زهاء مائة (100) دولار للفرد المشارك وقد تستمر لنصف ساعة من الزمن وتشمل عددا كبيرا من الاسئلة. الاستطلاعات التي تجريها الوسائل الاعلامية عادة تستند الى شريحة "البالغين،" والتي تعد الارخص كلفة ونتائجها هي الاقل مصداقية فيما يتعلق بنتائج الانتخابات النهائية. وفي هذا الحال، يطرح السؤال عبر الهاتف والاجابة تكون من حظ الفرد الذي يرد على المكالمة، اذ ليس هناك مقياس آخر يمكن اعتماده. ففي هذه الحالات، وهي شبه دائمة، تتباين النتائج وفق آلية اليوم المحدد من الاسبوع المعني. للدلالة، عطلة نهاية الاسبوع تشهد خروج عدد اكبر من العائلات التي تميل لصالح الحزب الجمهوري مما يخل بتوازن عينات الاستطلاع. الاستطلاعات ذات الطبيعة السياسية تستند الى شريحة "الناخبين المسجلين" حصرا، مما يفقد النتائج مصداقية تعتمد عليها. عند اجراء مكالمات هاتفية لمواطنين بشكل عشوائي، عادة يسأل الطرف الآخر ان كان مسجلا في سجلات الناخبين، ويأتي الجواب بالايجاب في الغالب اذ لا يتوفر اجراء محدد للتحقق من الامر. بالمقابل، بعض الاستطلاعات تستند حقيقة الى قوائم المسجلين وبياناتهم الشخصية مما يغذي مصداقية نتائجها. التنبؤ بنتائج الانتخابات يلزم الواقع اكثر حين تستند الدراسات الاستقصائية الى عينة من الناخبين الذين سيدلون باصواتهم. هذا النموذج يعمل على طريقتين: طرح سيل من الاسئلة على الناخب للتيقن من احتمالات مشاركته في الانتخابات المعنية؛ او التواصل مع عينة من الناخبين التي يدل ماضيها بالمشاركة الفاعلة، وترجيح مشاركتها في الجولة المقبلة، وهي اكثر كلفة من سابقتها. من الواضح ان تلك النماذج لا تعكس الوضع بشموليته، فالحذر من النتائج وارد حتى لو استندت الاستطلاعات على عينة من الناخبين المرجح مشاركتهم. كما ان نتائج المؤسسات المختلفة متباينة، وينبغي التدقيق جيدا في آلية عملها ومنهجيتها واستنتاجاتها. إحدى أهم المعطيات لتشخيص منهجية الاستطلاعات هي مراقبة اتساع دائرة مؤيدي الحزبين. اذ لا يتوفر معيار افضل من الهوية الانتخابية للتكهن بوجهة التصويت، الامر الذي اثبت نجاعته على طول امتداد الفترة الزمنية التي شهدت استطلاعات للرأي. درجت العادة ان يستند مرشحي الحزبين الى قاعدة تفيد بدعم نحو90% من الناخبين الحزبيين لصالح المرشح المراد، ونسبة 10% قد لا تصوت له. وعند عقد مقارنة بين نتائج استطلاع محدد بنتائج استطلاع يجرى فور ادلاء الناخب بصوته يمكننا التوصل الى نتيجة تدل على فعالية العينة. حدة الاستقطاب الانتخابي الراهن بين مؤيدي الحزبين تجعل من العسير التكهن بالخريطة الانتخابية لهذا الموسم، لكن الثابت ان المشاركة الانتخابية لمؤيدي الحزب الديموقراطي ستكون اقل من المستوى السابق لعام 2008. أحد أحدث الاستطلاعات التي اجرتها صحيفة واشنطن بوست، بالتعاون مع شبكة ايه بي سي للتلفزة، تشير الى تعادل المرشحين اوباما ورومني بنسبة 47% لكل منهما بين عينة من الناخبين المسجلين. في مسعى لتفسير نتائج الاستطلاع المشار اليه، واستنادا الى فرضية ان العينة شملت الناخبين المسجلين، باستطاعتنا الافتراض ان نسبة التأييد لاوباما هي اعلى مما ستسفر عنه النتائج يوم اجراء الانتخابات. ومن ناحية اخرى، علينا النظر بطبيعة التأييد الحزبي للعينة. في هذه الحالة، جاءت النتيجة للفِرَق الثلاث، الديموقراطي والجمهوري والمستقل، بنسبة 33، 24، 36 على التوالي. وعند مقارنتها بالنتائج للحملة الانتخابية السابق نتبين البون الشاسع في تأييد الناخبين والتي كانت 39 للديموقراطيين، 32 للجمهوريين و29 للمستقلين؛ ونتائج الانتخابات النصفية التي اجريت عام 2010 جاءت بالتالي: 35% للديموقراطيين، 35% للجمهوريين، و30% للمستقلين (النتائج المشار اليها مصدرها شبكة سي ان ان). في هذا الحال، نحن امام انقسام اوسع مما جاءت به موجة الدعم العارمة للحزب الديموقراطي عام 2008، وبالكاد ستؤدي الى مناصفة التأييد لاوباما بين الناخبين المسجلين. الامر الذي لا يؤشر على خير بالنسبة للرئيس اوباما، الا اذا استند الفرد الى ما يتردد بان الانتخابات ستشهد موجات من التأييد الهائل لصالح الرئيس اوباما في اللحظات الاخيرة وربما تفوق مثيلتها في عام 2008. الاستناد الى تحديد هوية الناخبين في الدوائر المعنية من شأنه ان يؤدي الى الحكم على دقة اسطلاعات الرأي. المعروف ان الانتماء الحزبي للناخب يوم انعقاد الانتخابات هي مسألة ثابتة وبالمستطاع اجراء تكهنات حولها. ففي الجولات الانتخابية السابقة، التي شهدت نموا ملحوظا لصالح الحزب الجمهوري، اسفرت عن دعم ثابت لصالحه، كما جرى عام 2004. بالمقابل، الجولات التي شهدت ميولا لصالح الحزب الديموقراطي عادة اسفرت نتائجها عن اضافة نحو 5% وربما اكثر من التأييد له في المستوى القومي العام. المؤشرات الراهنة تدل على ميول اكبر من التأييد لصالح الحزب الجمهوري. تجدر الاشارة الى ان نتائج استطلاعات الرأي بين عينة الناخبين المسجلين لهذا العام لا يعوّل على مصداقيتها وذلك بسبب الحماس العالي لمشاركة الناخبين الجمهوريين في التصويت على حساب تراجع مشاركة مؤيدي الحزب الديموقراطي. استنادا الى تكرار المشهد السياسي لناحية تأييد اكبر لصالح الحزب الديموقراطي، فمن النادر ان يتقدم الحزب الجمهوري في انتخابات عامة بين قاعدة الناخبين المسجلين. وتجسدت هذه النتيجة في السنوات التي شكل فيها الجمهوريون اغلبية في الكونغرس، منتصف عقد التسعينيات الى منتصف عام 2000. اما راهنا، يشير معهد غالوب الى تقدم الحزب الجمهوري على نظيره الديموقراطي. الاستطلاع الذي اجراه المعهد في شهر حزيران / يونيو الماضي على عينة من الناخبين المسجلين الموزعون على 12 ولاية اوضح ان نسبة 47% من الناخبين تؤيد الرئيس اوباما، مقابل 45% تؤيد منافسه ميت رومني. جدير بالذكر ان مؤيدي المرشح رومني يشهرون "حماسا وقّادا" للمشاركة في الانتخابات، بنسبة 31% مقابل 23% لمؤيدي اوباما. وتتكرر الحالة عينها لتأييد الحزبين في الولايات التي تعتبر متصارع عليها للفوز، 32% لصالح الحزب الجمهوري مقابل 25% لنظيره الديموقراطي. من شأن النسب المذكورة ان تشكل العامل الاوفر حسما لنتائج الانتخابات الفعلية. من بين العوامل التي ينبغي أخذها بالحسبان هي مدى التأييد الفعلي للرئيس الراهن، مهما كانت هويته. اذ جرت العادة بالاستنتاج ان بلغت نسبة تأييد للرئيس ما دون 50% فانها تؤشر على مأزق ينتظره. استنادا الى الاحصائيات السابقة، فان الرئيس المنتخب عادة ما يحصد نسبة اصوات توازي تقريبا نسبة تأييده في الاستطلاعات المشار اليها. بالطبع هناك بعض الاستثناءات القليلة للنتيجة المذكورة، ففي حملة الانتخابات لعام 1972 ونظرا للوضع الكارثي الذي رافق حملة المرشح الديموقراطي جورج ماكفرن، استطاع خصمه ريتشارد نيكسون الفوز بنسبة تأييد اعلى مما جاءت به نتائج استطلاعات تأييد الاداء الرئاسي. ايضا، حين شهدت حملة الرئيس الاسبق جيمي كارتر انشقاقات متعددة داخل صفوف الحزب الديموقراطي نتيجة عدم الرضى الشعبي لادائه، فضل بعضهم التصويت لصالحه نكاية بمنافسه رونالد ريغان. اجمالا، تستوي هذه البديهية في معظم الحالات. ساهمت المساجلات الحية بين مرشحي الحزبين في اتاحة الفرصة للحزب الديموقراطي لاعادة بناء شرائح مؤيديه واعادة النشاط لبناء تحالفات مع مكونات مجتمعية اخرى، لا سيما في فترتي الانتخابات لعام 1980 و1984. اذ ومنذ ذاك التاريخ حافظ الحزب الديموقراطي على مستوى دعم لا يقل عن 46% في الانتخابات الرئاسية المتعددة. وعليه يمكن البناء بان النسبة المذكورة تشكل جوهر قاعدة الدعم والتاييد للحزب الديموقراطي. عند اعتماد احصائيات التأييد الشعبي لاداء الرئيس اوباما نجد انها لا تتجاوز النسبة المذكورة، الا ضئيلا ان وجدت، اي دون تمدد يذكر. بعض الاستطلاعات تشير الى تجاوزه النسبة المذكورة بقليل لكنها هامشية في الاوقات الحاسمة. في احدث الاستطلاعات التي اجراها مركز "ريل كلير بوليتيكس" لقياس مدى التأييد الشعبي جاءت النتائج بنسبة 46.8% لصالح الرئيس اوباما. (تجدر الاشارة الى ان غالبية عينات الاستطلاعات استندت الى شريحة البالغين او المسجلين في السجلات الانتخابية، والتي عادة ما تدعم الحزب الديموقراطي بنسبة اكبر من حقيقة الجمهور الانتخابي العام). النظرة العامة للقاعدة المؤيدة للرئيس اوباما تنطوي على بعض التضليل لا سيما وانها تتضمن مؤيدي شديدي المناصرة له بين اوساط الجالية السوداء. اما الاقليات الاخرى فلا تشاطرها التاييد الشامل. بالاستناد الى ان شريحة المصوتين البيض/الاوروبيين هي اكبر الشرائح عددا نجد ان مستوى تأييد الرئيس اوباما لا يتجاوز نسبة 37% بينها مقابل ما كانت علية عام 2008 بمستوى 43%. وذات الامر ينطبق على الجالية ذات الاصول اللاتينية التي انخفض مستوى دعمها له من 67% عام 2008 الى نسبة 57% راهنا. هنا تبرز اشكالية ترجمة زخم التأييد الشعبي الى اصوات داخل هيئة الناخبين (538 صوتا) التي تحسم نتتائج الانتخابات حصرا. بما ان الناخبين السود يمثلون كتلة متراصة لصالح الحزب الديموقراطي في الولايات التي تميل عادة لتأييده، من المستبعد ان يسري الامر والتأثير على اصوات الهيئة في عدد من الولايات المتصارع عليها. وعليه، يمكننا القول ان انخفاض نسبة الدعم لاوباما بين اوساط الجالية ذات الاصول اللاتينية يشكل نذيرا للرئيس اوباما في الولايات المتصارع عليها مثل نيفادا وكولورادو ونيو مكسيكو. نسب التأييد للاداء الرئاسي انعكس على المناطق الجغرافية الاربعة التي يتم وفقها تقسيم الخريطة الانتخابية الشاملة. في انتخابات عام 2008، حصد الرئيس اوباما دعم ثلاث مناطق هي ولايات الساحل الشرقي، وولايات الوسط والولاياتالغربية. اما خصمه آنذاك جون ماكين فقد انحصر تأييده على الولايات الجنوبية التي عادة تميل لتاييد الحزب الجمهوري. جولة الانتخابات المقبلة، بلغة الارقام، تثبت تراجع نسبة التأييد للرئيس اوباما. ففي ولايات الساحل الشرقي يتمتع اوباما بنسبة تأييد تترواح نحو 50%؛ وفي ولايات الوسط الذي يتضمن عدد من الولايات المتصارع عليها، لا تتجاوز نسبة تأييده 46% راهنا مقابل 54% لعام 2008. النسبة المتدنية المذكورة تقل 1% عن نسبة تأييد الجمهور الاميركي للمرشح الديموقراطي لعام 1988، مايك دوكاكس، الذي فاز عليه خصمه جورج بوش الاب باغلبية ساحقة. قد يجادل البعض انه لا يزال متسع من الوقت امام الرئيس اوباما لتعديل نسب التأييد قبل انعقاد الانتخابات مطلع شهر تشرين2 / نوفمبر المقبل، الا ان الاستطلاعات الرصينة، لناحية منهجيتها وآلية عملها، تدل على حقيقة الهوة التي يعاني منها الرئيس اوباما، على الرغم من انها افضل حالا مقارنة مع رؤساء سابقين. حقيقة الارقام المجردة تشير بوضوح الى قلقه من النتائج النهائية في سعيه الاحتفاظ بالبيت الابيض لفترة رئاسية ثانية. _____________________________________________ الدكتور منذر سليمان رئيس مركز الدراسات الأمريكية والعربية - واشنطن