هناك تصور إجمالي عن هذه المرحلة السياسية وتقديري لغياب ملامح الحسم بها وإفرازها لنظام وصاية عسكرية قلق: دستوريا وسياسيا، وأن سبيل الحل هو في إنتاج أدوات سياسية حقيقية منحازة للخط الثوري والتوافق الوطني، وأهداف الديمقراطية، والعدل الاجتماعي، والاستقلال، وإعادة تشكيل الخارطة السياسية. سبب غياب الحسم وعدم إمكانيته هو أن ترتيب السياق السياسي والتشريعي (الاحتقان السياسي، الدخول تحت طاولة الإعلان الدستوري)، وهيمنة فصيل بعينه على السلطة التنفيذية (الرسمية) والتشريعية، مما يسمح بجعل المعركة صراعا على مساحات السلطة مع القرص الصلب للدولة، وتحيزات القوى السياسية— الإخوان وغيرهم—كل هذا يمنع من إحداث جبهة وطنية حقيقية وحالة زخم ثوري لا تدخل في عملية سياسية قبل توفية الحد الأدنى من النتاج الثوري (تنحية العسكر عن العملية السياسية). في ظل هذا الوضع تغيب الأولويات وترتبك، ويكون قبول بحيز من الوصاية العسكرية (كما توافينا أنباء الجمعية التأسيسية لوضع الدستور عن دسترة لوثيقة علي السلمي)، مع الصراع معها على هامش من المساحات الذي يفيد فريقا بعينه. بدون التوافق الوطني والتوازن السياسي— في مرحلة التحول الديمقراطي— لا يمكن إخضاع المؤسسة العسكرية والسيادية لسلطة تنفيذية وتشريعية يغلب عليها لون واحد. ملاحظات أخرى فيما يتعلق بما يحدث الآن: - أولا: لا يمكنك أن تدخل تحت طاولة الإعلان الدستوري، وتغيب عنك مفردات الحسم في التوافق الوطني (الحقيقي) وليس الدعائي وكذلك الزخم الثوري (الحقيقي)، ثم تنتظر أن تحصد نتائج حاسمة. إن حاولت ذلك فأنت إما ستصطدم مع موازين قوى ليست في صالحك، أو تنتهك مباديء أساسية قانونية وديمقراطية. فيتم الاستفادة من ذلك في حرقك سياسيا بالفعل. لايمكنك أن تشتغل (سياسة) وفي نفس الوقت تخترق بنى القانون والدمقرطة بحجة (الثورة). الثورة لها أوضاعها الاستثنائية ومحدداتها التشريعية والسياسية وكذلك السياسة. - ثانيا: مهما يكن من إشكالات في المؤسسة القضائية كنتاج لعصر كامل من الاستبداد، وإن كانت هي أقل بنى الدولة السابقة فسادا وانحرافا وتحيزا للنظام دون أي مزايدة من أحد، فلا يمكننا ببساطة هدمها أو جعل سبيل إصلاحها في يد سلطة تنفيذية أو تشريعية، لكنه يكون نتاج عقد اجتماعي جديد وسير متوازن وجماعي لإعادة تعريف المبادئ الدستورية الضابطة للسلطة القضائية وعلاقتها ببقية السلطات وسبل الحكم الذاتي داخلها. نحن نتحدث هنا عن (سلطة) وليس مؤسسة مهنية كالمؤسسة العسكرية أو الأمنية. وحتى المؤسسة العسكرية، لا نقول بقلبها رأسا على عقب مرة واحدة. وحتى في حال المؤسسة العسكرية، فإننا دائما كنا ندعو أن يكون إخضاعها لسلطة تنفيذية وتشريعية (توافقية)، لأنه من الخطر أن يتم إخضاع المؤسسة العسكرية— قبل اكتمال التوازن بين ماهو مهني وسياسي والذي يكون ثمرة للانتقال الديمقراطي— لسلطة يسيطر عليها فصيل واحد، لأنه سيخترقها ويسيسها. والأمر أشد وضوحا وأخطر في حال (سلطة قضائية). حتى مبارك وله صلاحيات دستورية متغولة، وسلطات واقعية أشد تغولا وتوغلا كان يسمح بمساحة كبيرة من التحرك الذاتي للسلطة القضائية خصوصا في محاكم النقض ومجلس الدولة، وكثيرا ما أنصفت هذه المحاكم (حكام اليوم)، بل حتى المحكمة الدستورية التي يتحكم الرئيس في تشكيلها كان لها—خصوصا في عهد رئيسها الأسبق المستشار عوض المر—أحكام قوية مخالفة لرغبات النظام. والرئيس المنتخب الآن الذي لم نقف بعد— قبل وضع الدستور—على حدود صلاحياته، وهل سيكون حكما بين السلطات، وما هي حدود هذا (التحكيم)؟ أم يبقى رأس السلطة التنفيذية بالأساس، أم منصب شرفي؟ كل مانعلمه هو ما أقره الإعلان الدستوري الذي أقسم تحت طائلته هذا الرئيس. - ثالثا: في معرض التحول الديمقراطي، قد لا نكون راضين عن بعض المنتوجات، ونطعن حتى في الآليات التي أخرجتها، لكن من الخطورة هدم المبدأ الديمقراطي ذاته، لأنه سيجرئ الجميع على ذلك، وتكون الغلبة لمن في يده سطوة إعلامية وسلطوية وتحشيدية، وليس لصاحب الحق ولمقررات الديمقراطية. فمثلا، هناك تحفظات جوهرية على مدى ديمقراطية المنتوج الانتخابي لانتخابات البرلمان ومدى تمثيليته للوضع الشعبي لأسباب تتعلق بمحددات البيئة السياسية والتشريعية التي عقدت فيها الانتخابات وممارسات القوى السياسية الفائزة، ولكن الطعن فعلا في المنتوج الانتخابي قد يهدم فكرة العملية الديمقراطية ذاتها، قبل أن يتم تشربها اجتماعيا وسياسيا ومؤسسيا. وكذلك بالنسبة لأحكام القضاء المدني— دستوري وعام وإداري— فهذه لايجوز الآن الطعن في حجيتها، لكن محاولة تغيير البنى الدستورية والمؤسسية الضابطة لها، سواء باشتقاق طرق ثورية متمازجة مع العرف الديمقراطي (نتحرك ثورة وليس سياسة، وملتزمين بما تفرزه الثورة من تلاقح وطني جماعي لتغيير البنى الدستورية) أو باستخدام الحوار المجتمعي والمؤسسي ذاته من داخل النظام السياسي. هذا من وجهة نظر التعامل مع السلطة القضائية وليس بالضرورة الإنجاز الثوري. - رابعا: تقديري أن قرار الرئيس المنتخب بإعادة البرلمان بالمخالفة لحكم المحكمة الدستورية وتفسيرها (القضائي) الملزم لأي تفسير (قانوني) له سببان: الأول إدراك متأخر بمدى خطورة المسار الذي يخوض فيه (صلاحيات مقيدة بشكل كبير مما يؤدي للحرق السياسي، وفرصة كبيرة لإعادة انتخابات الرئاسة، وبرلمان تم حله، ووصاية عسكرية على المنتوج الدستوري ومقررة بداخله)، والثاني تقدير مبالغ فيه للقوة الذاتية (الموجودة وليست الممكنة إن تم تصحيح المسار) والتقليل من رد فعل الخصم. (كعادة الكيانات المغلقة التاريخية سواء الإخوان أو العسكر). كان من الأَولى بناء حالة توافقية وثورية كافية لإلغاء الإعلان الدستوري نفسه دون التعرض لأحكام القضاء ودون تقديم فرصة جيدة للعسكري للتدخل لمواجهة (انتهاك أحكام القضاء) والصدام بين السلطة التنفيذية والقضائية. للأسف، آثار ذلك تكون وخيمة على مرحلة التحول الديمقراطي وبناء مؤسسات دولة حقيقية، لأنها توهن مبدأ احترام القضاء وأحكامه، وتجعل سب القضاة ومؤسساتهم نزعة راسخة عند مرتادي السياسة ومراهقيها، وتجعل المؤسسة القضائية تشعر بعداء شديد تجاه السلطة المنتخبة، وتفرز لنا تسييسا داخل المؤسسة القضائية لفريق يطبل لهذا الطرف أو ذاك. وإن كان الرئيس محمد مرسي قد حرص على طمأنة المؤسسة العسكرية وتهدئة خواطر قادتها والقبول مثلا أن يكون وزير الدفاع والقائد العام هو (رئيس المجلس العسكري) كما سماه في خطابه يوم توليته، هذا مع علمنا بتحول المجلس العسكري من مؤسسة مهنية لسلطة وصاية، وعن وجود إشكالات وجرائم حقيقية منسوبة لهذه المؤسسة في عهد مبارك وبعد تنحيه، فإن الحرص البالغ في الخطاب الإعلامي والسياسي والموقف من القضاء أهم وأولى. وإن كان البرلمان قد حرص على الالتزام باللوائح والقوانين في ظل حالة من الطغيان السياسي المقابل وانتهاكات حقوقية واضحة، بل حتى التأخر في تقديم تشريعات ضابطة للبيئة السياسية والقضائية ومحاكمات النظام السابق، وقبلت التيارات المتسيدة فيه بكل الإعلانات الدستورية المتعاقبة مع عدم شرعيتها وهدمها للإرادة الشعبية، فلا بد أن تكون هذه التيارات أكثر حرصا في القوانين المنظمة لعمل (السلطة) القضائية. والحل؟ من الممكن أن نطرح حلا للمأزق الحالي تكوين جبهة وطنية تتمثل في نائبين قويين للرئيس ورئيس حكومة قوي يمثلون التوجهات الأساسية، وتطوير حالة من الزخم الثوري متعدد الأطياف، واستثمار ذلك في إلغاء الإعلان الدستوري، أو تعديله مع عرضه على استفتاء. لكن لن يحدث ذلك، لأن الأطراف الموجودة لها تحيزات منعها من الوفاء بمطالب التوافق والثورة. الحل إذاً هو تطوير أدوات سياسية حقيقية منحازة لأهداف الثورة في الديمقراطية والعدل الاجتماعي والاستقلال ولنمطها، وقادرة على الحشد المجتمعي وتغيير الخارطة السياسية. كذلك من المهم تعضيد أي عمل سياسي، يريد نقض الوصاية العسكرية دون التورط في مسلك غير ديمقراطي.