آيات سورة النور التي تتناول حادثة الإفك، لم تكن تبرئة لأم المؤمنين عائشة (رض) عنها فحسب، بل كانت منهجا وإرشادا للمسلمين في كل العصور، لكل مجتمع يريد أن يجمع بين حرية الرأي وتداول المعلومات دون التعدي على الأعراض والحرمات، لكل إنسان يربأ بنفسه أن يشوه كل جميل، وأن يدنس كل مصان، بكلمات لا زمام لها ولا خطام. «لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم». إنه الخير الذي يدوم في أمة علمها ربها كيف تتعامل مع الشائعات، وكيف تواجه حملات الإفك التي يشنها المنافقون في كل عصر ومصر. فقبيل أيام من الانتخابات المصرية التي يحاول النظام السابق أن يرتد عبرها على الوطن من جديد، رغم جرائمه الثابتة المتواترة، تستخدم ثعابينه الكامنة كل الوسائل القذرة لبلبلة الرأي العام، وتشويه صورة الإسلاميين بكل وسيلة. وهذه المرة ليس طعنا في نواب برلمان بعد الثورة فحسب، ولا تشويها وتسليطا للضوء على هنات أو أخطاء تحت قبته، وإنما طعنا في شيخ مفتي اختاره الناس ليكون نائبا عنهم، إنه تنفيذ قذر لشعار رئيس مخابرات مبارك «إنزال العمامة عن رأس مصر». تحت قعقعة طبول الإعلام الموجه وقع بعض البسطاء فيما أراده الظالمون، فرددوا غثاء قولهم، وتشوشت أفكارهم، وطار الفاسقون بفرحتهم قائلين: ها هم الشيوخ يرتكبون الفواحش، لا عتب علينا إذًا ولا تثريب! يرفض البعض حفظ اللسان عن الوقوع في هذا اللغط بزعم أن حرية الإعلام، وحرية تداول المعلومات تتنافيان مع التثبت، ولأن الشخصيات العامة عليها أن تتحمل مثل هذه الأمور، فلا عصمة لأحد في مجتمع حر مفتوح. والحقيقة، أنه ليس معنى أن الشخص غير معصوم أن تهدر كرامته وحقوقه التي كفلها له الشرع والعرف والقانون، فالقاعدة تقضي بأن: «الأصل في المتهم البراءة»، أما في الشرع الحكيم فإن التهمة لا توجه إلا بالشهود. ولأن حرية تداول المعلومات تختلف كثيرا عن حرية إطلاق وترويج الشائعات، فإن الخوض في الأعراض ممنوع محظور، ورمي الناس بالباطل ضرر محض لا ثراء معلوماتي فيه، ولا تجديد للمعرفة. قواعد التعامل مع الإفك أرشدنا ربنا سبحانه تعالى إلى قواعد محكمة للتعامل مع الإفك، صيانةً للأعراض، ودفعا لمحبي إشاعة الفاحشة، وهذه القواعد: 1. الظن الحسن. قال تعالى: «لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ» (النور: 12) فالذي يعلم من نفسه الشر والانحطاط، يتوقعه من الآخرين، ويسهل عليه تصديق السوء عليهم، فكل إناء بما فيه ينضح. 2. القول الطيب. قال تعالى: «الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» (النور: 26). قَالَ اِبْن عَبَّاس: الْخَبِيثَات مِنْ الْقَوْل لِلْخَبِيثِينَ مِنْ الرِّجَال وَالْخَبِيثُونَ مِنْ الرِّجَال لِلْخَبِيثَاتِ مِنْ الْقَوْل. وَالطَّيِّبَات مِنْ الْقَوْل لِلطَّيِّبِينَ مِنْ الرِّجَال وَالطَّيِّبُونَ مِنْ الرِّجَال لِلطَّيِّبَاتِ مِنْ الْقَوْل - قَالَ - وَنَزَلَتْ فِي عَائِشَة وَأَهْل الْإِفْك وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِد وَعَطَاء وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالشَّعْبِيّ وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَحَبِيب بْن أَبِي ثَابِت وَالضَّحَّاك وَاخْتَارَهُ اِبْن جَرِير وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ الْكَلَام الْقَبِيح أَوْلَى بِأَهْلِ الْقُبْح مِنْ النَّاس وَالْكَلَام الطَّيِّب أَوْلَى بِالطَّيِّبِينَ مِنْ النَّاس. فسلوك المؤمنين في كل زمان تجاه حوادث الإفك والبهتان، أن يبادروا إلى إحسان الظن، ونفي التهمة، وأن يتساءل كل مسلم ومسلمة عند تردد الأقاويل عن الأعراض: هل أظن هذا بنفسي وأهل بيتي؟ فإذا نفى التهمة عن نفسه، فلينفها ابتداءً عن غيره، أما إذا لم ينفها عن نفسه، فإن ولوغه في أعراض الآخرين هو ليس اتهاما لهم بقدر ما هو اتهام للذات، ورغبة في إلصاق النقص بغيره تخفيفا للشعور بالدونية. 3. كف اللسان عن الخوض في الأعراض. قال تعالى: «وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ» (النور: 16). 4. عدم قبول المزاعم دون دليل دامغ، وهو في هذا الأمر 4 شهداء عدول. قال تعالى: «لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُولَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ». 5. إذا ثبتت الواقعة على شخص فلا يشنع بالأمر في كل محفل، حفاظا على المجتمع بأسره من اسستسهال الفاحشة واستساغتها والتهوين من فظاعتها. إن التعامل بهذه القواعد الربانية يحفظ النفس والمجتمع، وهو أيضا يكسب الشخص الحكمة والسداد، فلا تصم أذنه الأعيرة الطائشة لقصص الإفك، ويفكر بمنطقية. إن التفكير المنطقي الواعي يجعل الشخص ينفي بسهولة إفك النظام السابق في إطار حملة التشنيع على التيار الإسلامي، والتي تهدف إلى إشعار الناس باليأس من الإصلاح، والقبول بماضيهم الذي ثاروا عليه! وبمقتضى المنطق: أليس من الغريب أن يمارس شخص الرذيلة وهو متزوج بأربعة نساء؟! ليس هذا فحسب، بل إن بمقدوره إذا خاف الخطر على نفسه أن يطلق إحداهن ويتزوج غيرها؟ وتنزلا من العقول المفتونة، ودحضا لافتراءات الأهواء الفاسدة، فإذا افترضنا أن الشخص مجبول على محبة الحرام، أو أن امرأة ملكت قلبه ولا يقدر أن يتزوجها، فهل يفضح نفسه معها في الشارع؟ ألا يتمكن من ستر نفسه، وأخذ راحته!! خاصة إذا كان ميسورا ممكنا؟ ألا يحرص على ستر نفسه بدلا من إتيان الفاحشة في الطريق العام؟ فكيف إذا كان شيخا محترما بين أهل قريته، الذين تتداول فيهم الأخبار بسهولة، وليس شخصا مغمورا، أو ساقطا لا يؤبه له؟ أليس تلفيقا عجيبا وسردا مريبا يدعو للتشكك في أصل القصة وجوهرها؟ فكيف إذاً كان هذا الشيخ المتزوج من 4 نسوة، والمعروف بين أهل قريته نائبا برلمانيا وشخصية عامة؟ كيف تقبل أذهاننا الأقوال المتضادة المتناقضة، وقبول أن يكذب الشيخ كذبتين متضادتين؟ كيف نقبل أنه صرخ في الشرطة مهددا لهم بأنه نائب محصن.. ونقبل في الوقت ذاته أنه تذلل وترجى وقبّل الرؤوس طلبا للعفو والسماح؟ إن تعارض أقوال المفتري يكفي لدحض افتراءاته جميعا، لكن فقط إذا سلمت القلوب، ولم تكن متشوفة للبطلان، مستحسنة لها، راغبة في سماعه وتصديقه. العصمة للمنهج المجتمع المسلم مع صيانته للأعراض، وتطهره من الفواحش، وحفاظه على كرامة الناس وصيانة سمعتهم، فإنه لا يقدس الأشخاص، ولا يربط سلامة المنهج بهم، فالمنهج معصوم، والأشخاص خطاؤون، قال (ص): «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطَّائين التوّابون» ومازال النظام السابق يستخدم نفس أدواته الفاسدة، يستهين بذكاء المصريين، ويعاملهم انطلاقا من المثل الزائف: «لا دخان بغير نار»، لكن المصريين خبروا مع هذا النظام أدخنة كثيرة مصطنعة وزائفة، فإنها ليست المرة الأولى التي يلصقون فيها تهم الفساد الأخلاقي بالدعاة والمصلحين، بالفبركة وتركيب الصور واختلاق القصص. المصريون اليوم يعلمون من الفاسد حقًا.. ولا ينتظرون من السكير أمنا ورشادا، ولا ممن سرقهم لعقود إصلاحا.