في سكون السحر.. لملمت جراحها، وحملت حقيبة ثقيلة أمسكتها بعناية، وعلى كتفها علقت حقيبة طفلتها الرضيعة، نزلت الدرج بحذر، ودعتها أمها: أستودعك الله يا حبيبتي، انتبهي لابنتك، وسلمي على زوجك كثيرا، وقولي له: فرج الله قريب. ما أن استقلت سيارة الأجرة الخاصة لتوصلها إلى موقف حافلات السفر، حتى أخذت نفسا عميقا، واستعانت بالله وسألته من فضله أن ييسر طريقها، ويقيها شر كل ذي شر من خلقه. وما أن وصلت إلى «موقف عبود» – بغية المسافرين من القاهرة إلى بقية أنحاء القطر المصري- حتى زال إحساسها بالسكون والتفرد والرهبة، مدت الخطى بجسد مكدود وحمل ثقيل ناء به ذراعاها، حتى رأت شبيهاتها ومثيلاتها من الأمهات والزوجات يخرجن في عتمة الليل .. يضرب طول الطريق ومشقته أكبادهن، كي يصلن إلى الأحبة المأسورين خلف أسوار الظلم المبين. صلين الفجر في المسجد، وركبن السيارة وقد بدأت معركتهن مع الوقت ومناشدتهن السائق أن يسرع، حتى يدركن الزيارة من بدايتها، فالطريق طويل، والسجن الذي قُبر فيه الأحبة له من اسمه نصيب كبير.. سجن الأبعادية، وقد كان حقا بعيدا مبعدا ممطوطا ممدودا في البعاد، لا تذكره إحداهن إلا وأردفت «أبعده الله». وكالعادة اتصل الهمّ بنظيره رجاء أن يجد عنده فرجا! فحكت كل واحدة قصتها، وكيف اعتقل زوار الفجر زوجها أو ابنها، تشابهت قصصهن، اعتقال بقانون اللاقانون، بذراع كل نظام باغي والمعنون ب«الطوارئ»، وما هو بطارئ! وسبب الاعتقال الواهي يبدأ بشخص تحدث في يوم بئيس من أيام حياته عن العراق أو فلسطين، ولربما أخذته الحمية لأوطان المسلمين، فحدّث بعض أصدقائه وجيرانه عن حلمه بالجهاد في ديار المسلمين المحتلة، فتصل همهمات إلى جهاز الذعر المسمى زورا ب«الأمن»، فيقتادوه ويقتادوا أصدقاءه القدامى والمحدثين، مهما طال الإسناد وتشعب، فيأخذ كل منهم حظه ونصيبه من التعذيب والسجن. تبادلت زوجات وأمهات المعتقلين القصص والأخبار في طريق السفر، ولربما ركبت معهن امرأة عتيدة الابتلاء، تسألهن عن مدد اعتقال ذويهن؟ فيجبن: عام .. عامان .. أو ربما سبعة أعوام على الأكثر، فتبتسم من وراء نقابها، وتلقي عليهم الصاعقة: أنا في هذا الهم منذ 15 عاما، وقبل أن تغرقهم موجة اليأس والصدمة، تدركهم بكلمات قاطعات: لسنا مثلكم ..! احمدوا ربكم، أنتم السلفيون أمركم هين وخروجكم قريب، بعكس أبناء الجهاد والجماعة الإسلامية. ردت صاحبتنا بلسان مرره الظلم: لا أدري يا اُخَيّة .. لكن الظلم فينا يتجلى كأبشع ما يكون، فلا سبب ولا مبرر حتى وفق منطق الظالم نفسه، وفي جعبة كل منا عشرات الأحكام بالإفراج لزوجها أو ابنها، والتي لا تنفذ .. وفي النهاية نحن نعتقد حقا منذ البداية ما وصلت إليه مبادرات المراجعة والتصالح، لكن غول الذعر لا بد له أن يقتات، فقد كبر وتضخم، ولا بد أن يخلق التهديد للحاكم حتى يبقى، ولا بد للحاكم أن يوجد التهديد المبهم «الفزاعة». انتهى الحديث وسرت في القلوب رجفة، فقد ظهرت في الأفق أسوار السجن، واكتظت ساحة الانتظار بنساء خرجن من بيوتهن في عتمة الليل، وجررن خلفهن أبناء وبنات، وطعام وكتب. انتهت إجراءات التسجيل والدخول بكل ما فيها من تفتيش ومهانة وتعب، وما أن دخلت صاحبتنا إلى ساحة الزيارة في انتظار قدوم زوجها حتى نست كل تعب وغم، وشعرت بفرح يملأ قلبها، إنها اللحظات التي تنتظرها طيلة أسبوع أو أسبوعين، وأحيانا أكثر. أطل قادما من بعيد.. بقميصه الأبيض، ووجهه المضيء، وابتسامته الحلوة.. رآها واقفة بانتظاره فأسرع، وسلم عليها وقبل ابنته التي انطلقت أولى صرخاتها في الدنيا بينما كان يطلق الصرخات من التعذيب. في الممر الموصل إلى صالة الزيارة، وبكل حنق الدنيا، وقف ضابط من ضباط الذعر ينظر إلى المشهد، زوجات صابرات .. بقدر الله راضيات، في ريعان شبابهن أوقفن حياتهن على أزواجهن، كل أملهن في الدنيا أن يدخلن السرور على قلوب هؤلاء المأسورين، تحملت كل واحدة منهن ما تنوء به الجبال لترسم البسمة، وتشيع الطمأنينة والثبات في قلب زوجها. «لماذا يفعلن هذا؟» .. تمتم ضابط الذعر بغيظ. وأردف: «أمن أجل هذه الخلوة الشرعية الخاطفة التي نسمح لهم بها؟.. والله لأمنعنها». كانت صورة امرأته تقفز إلى خاطره كلما رأى مشهد الزيارة .. امرأته بكل كرهها له، وبغضها ولومها وتقريعها.. بكل شكه فيها، بكل دناءته معها ونقمتها عليه، بكل ما بينهما من صخور جفاء وندية وعداء. كلما رأى مشهد الزيارة .. هؤلاء الشابات المتلفعات بالسواد، قادمات من أقاصي البلاد، محبات متوددات .. قاصرات الطرف مقصورات على هؤلاء الأسرى، تمنى لو يكون أسيرا ليوم واحد .. يشعر بهذا الحب الطاغي، وهذه العاطفة الجياشة، بمعنى أن يكون للرجل زوجة تحب حقا وتؤازر وتصبر. لكن أمنيته استحالت ضحكة ساخرة عندما تذكر كيف سيكون رد فعل زوجته في هذه الحالة .. أين ستكون؟، وماذا ستفعل؟! وعاد لتساؤلاته: لماذا يصبرن؟ .. ولماذا صبر من كنَّ قبلهن؟ .. رغم طول الاعتقال ومنع الزيارات..؟! ألسن شابات..أغلبهن في عشرينياتها؟ ألم تهدم بيوتهن ويتلطمن لدى الأهل .. فلماذا لا يكون الطلاق إذًا؟، وفرصة لحياة جديدة؟ كان السؤال هائجا في رأسه، وأراد أن يمضي ظلما في البحث عن الإجابة، فمنع اللقاء الخاطف، وحرم المعتقلين من احتضان أبنائهم، ورؤية وجوه زوجاتهم. «زيارة سلك» .. أصدر القرار.. علّه يجد الجواب المنطقي الذي يريد، هجران الزوجة .. وبؤس الأسير. كم تمنى من كل قلبه لو لم يصدر القرار، لظلت فكرة «الهجر والترك» إذًا قائمة، فالمشهد الجديد كان أشد بأسًا وتنكيلا بخياله المعذب. فمن وراء السلك تعانقت الأيدي، وتعلقت العيون، وتبادل الأزواج المتحابون في الله كلمات التثبيت والاستبشار بفرج الله القريب، ورسائل المودة الملفوفة جيدا حتى تدخل من بين الفتحات الضيقة. ... بعد سنوات قليلة معدودة في عمر الزمن، كان الذعر نصيبا لسدنة الظلم وخدام الطاغية، وفي صبيحة سقوط معاقلهم في يد الشعب الثائر، لم يجدوا سبيلا للفرار، والناس في انتظارهم، وقد أحاطوا بمبانيهم، حتى اتصل كل واحد بزوجته أو أمه أو أخته كي تغطي وجهها وسائر جسدها، وتتشبه بأرامل الأحياء سابقا .. وتصرخ في الناس أن زوجها معتقل بالداخل، حتى يجد وسيلة للتخفي على أنه معتقل بالداخل فيخرج معها .. بلاهة حتمها الخوف والصدمة، ولم تنطلِ على من أذاقوهم صنوف البغي والطغيان!