ينبغي لنا أن نؤمن بأن وجود الاختلاف أصبح أمرا ضروريا ونفعيا، بل وهو دليل على صحة المجتمع، وأن نؤمن أيضا بأنه يجب أن يكون الاختلاف لخدمة هذا المجتمع، للانتفاع من وجهات النظر الأخرى، وهو أمر طبيعي يقرره القرآن الكريم والعقل والتاريخ. من هنا، ليس غريباً اختلاف البشر في الأفكار والتصورات والمعتقدات والعادات والتقاليد، لكن الغريب حقاً محاولة البعض- قسرا- جعل الناس كلهم يؤمنون بفكر واحد وثقافة واحدة ومعتقدات واحدة وقيادة واحدة . إن محاولة جمع الناس على رأي واحد - إكراهاً لهم وغصباً - حتى في أحكام العبادات والمعاملات ونحوها من فروع الدين ، محاولة لا يمكن وقوعها ، كما أن محاولة رفع الخلاف لا تثمر إلا توسيع دائرة الاختلاف، وهي محاولة تدل على سذاجة بيّنة. ينبغي أن ندرك بتفهم أن الاختلاف لا بد منه، وهو يعيش معنا منذ القدم، لذا يجب أن نحاول التكيف معه بإبرازه بصورة راقية، ليتمكن الجميع من الإفادة منه بالشكل المطلوب، بحيث يكون هدفنا الأول والأخير هو الحقيقة، والحقيقة فقط. من أدب الاختلاف أن نحترم رأي الآخر، ونتقبل طرح الآخر، لا لأنه يوافقنا أو يقترب من مفهومنا، بل لأنه يخالفنا وفي الاختلاف إغناء وتعدد ورغبة في الاستزادة والتغيير، وأيضا لأنه احترام لفكر آخر ورؤية أخرى وثقافة مختلفة. والخلاف أمرٌ واقع لا محالة، لكن لا يجوز أن يؤدي الخلاف بين المتناظرين الصادقين في طلب الحق إلى تباغض وتقاطع وتهاجر، أو تشاحن وتدابر. فأخوة الدين، وصفاء القلوب، وطهارة النفوس فوق الخلافات الجزئية، والمسائل الفرعية. واختلاف وجهات النظر، لا ينبغي بأي حال أن يقطع حبال المودة، ومهما طالت المناظرة، أو تكرر الحوار، فلا ينبغي أن تؤثر في القلوب، أو تكدر الخواطر، أو تثير الضغائن. وقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا. لقد اختلف السلف فيما بينهم، وبقيت بينهم روابط الأخوة الدينية. فهاهما أبو بكر وعمر (رض)، يختلفان في أمور كثيرة ، وقضايا متعددة، مع بقاء الألفة والمحبة، ودوام الأخوة والمودة. ومع هذا الخلاف بينهما، إلا أن كل واحد منهما كان يحمل الحب والتقدير والاحترام للآخر، ويظهر ذلك من ثناء كل واحد منهما على صاحبها. في هذا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «المُؤْمِنُ للْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا». وشبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ. إن الحرية تعنى مسؤولية الأمانة فى الرأي والمشورة، وتعنى كذلك احترام آراء الآخرين. وعلينا من الآن أن نقبل أن الحق ليس حكرا على أحد، بل إن الحق قد تتعدد وجوهه أحيانا؛ فهذا أبو حنيفة النعمان (ر) قد غاب عن تلاميذه زمنا، ثم لما عاد اجتمع بأصحابه أبو يوسف وزفر وغيرهم، وقد وصلوا إلى مسألة من الفقه بالحجج والبراهين ثم أرادوا عرضها على أبي حنيفة، فلما قدِم أجابهم بغير جوابهم الذى اعتقدوا صحته فقالوا: لعل الغربة قد أنستك الفقه؟ فأقام الحجة عليهم، ثم قال لهم: فما تقولون فيمن يزعم أن قولكم هو الصواب وقولي هو الخطأ؟ قالوا: لا يكون ذلك فأقام حجته في ذلك، فقالوا: ظلمتنا ورأينا كان صوابا، قال : فما تقولون فيمن يزعم أن الرأي الأول والثاني خطأ والصواب في قول ثالث آخر؟ فاستمعوا وأذعنوا له ليتعلموا؛ فقالوا: علّمنا الرأي الصحيح، فقال: الصواب هو قولكم الأول، لعلة كذا وكذا، والمسألة لا تخرج من ثلاثة أنحاء لكل منها وجه في الفقه والمذهب، فخذوا الصواب ودعوا غيره . بل إن النبى الكريم عليه الصلاة والسلام لم يغضب أو يستغرب من مراجعة أحد رجاله فى غزوة بدر، هو الحباب بن المنذر، حينما أشار على النبي بتعديل مكان الجيش، ولم يقل له كيف تعدل وتصحح لمثلي، وأنا سيد الناس وهذا من فهمه الصحيح للطبيعة البشرية ورغبته في أن يتعلم الناس من بعده فقه الاختلاف وفضيلة التواضع للآخرين.