فلماذا يا ترى يحاول الإعلام الغربيُّ والسائرون في ركابه اختزال الإسلام والمسلمين وكل مَا يتعلق بهما في العنف وأحداث العنف؟ أهو الحب أم البغض أم شيء آخر؟ مهما يكن، فقد عزّز ذلك مخاوف الشعب الأمريكيّ والشعوب الأوربيّة من الإسلام، وقوّى من أنشطة الساعين لنشر فكرة «الإسلاموفوبيا». كنت ذات ليلة في مبنى «جامعة العلوم الإسلاميّة والاجتماعيّة» في ليسبرغ في أمريكا، وكنت قد تأخرت بعد فترة الدوام، فجاءني أحدهم ليقول: "إنّ هناك سيدة أمريكيّة تود أن تقابلك"، قلت: "لِمَلم تطلب منها أن تأتى في أوقات الدوام الرسميّ؟"، قال: "طلبت منها ذلك، لكنَّها أصرت أن تراك بعد مَا علمت أنَّك مَا تزال في مكتبك"، قلت: "أدخلها"، فدخلت وسلّمت ببرود، كانت سيدة في خريف العمر، تبلغ الخامسة والستين، قدّمت لي بطاقتها وفيها أنّها كانت تنتمي إلى السلك الدبلوماسيّ، عملت في الصين واليابان وغيرهما، سمعت عن الإسلام والمسلمين، ولكنّها لم تعمل في بلدان مسلمة، ثم وجّهت خطابها إليّ قائلة: "لدي مشكلة، إنّني أشعر بالخوف من كل أولئك الذين تدل سحنات وجوهم على أنّهم من المسلمين، بل حتى النساء المحجّبات صرت أخشاهن، وقرأت عن مؤسّستكم واعتدال القائمين عليها، ورجوت أن أجد عندكم مَا يزيل مخاوفي من الإسلام والمسلمين، والسحن المشرقيّة والمحجّبات، ولتدرك مَا أنا فيه فإنّني قد بدأت أشعر حين أرى مَنْ قد ينتمون إلى العالم الإسلاميّ أو أقابلهم بأنّني في حلم مزعج أحرص أن ينتهي بأسرع مَا يمكن!!"، فأخذت أتحدث إليها عن الإسلام ورأيه في الأنبياء كافّة، وأنّه هُوَ دين جميع الأنبياء، وأنّ الأنبياء في نظره أمّة واحدة. وباعتبارها دبلوماسيّة فقد أخذتُ أؤكد لها أنّ علاقة العالم الإسلاميّ في القرن الثامن عشر في أمريكا كانت علاقة طبيعيّة ووديّة جدًّا، وسألتها إن كانت تعرف أنّ أول من اعترف بالثورة الأمريكيّة، وتبادل الرسائل مع جورج واشنطن كان مسلمًا، وهو سلطان مراكش. فبدت عليها الدهشة، وقالت أنّها لم تكن تعرف هذا. ثم تحدّثتُ عن ظاهرة التعصب، وأنّها ظاهرة ليست خاصّة بالمسلمين، بل هِيَ ظاهرة تكاد تكون عامّة، تُصيب الناس باعتبارها ظاهرة مرضيّة عندما ينحرف فهمهم للدين -أيّ دين كان- فيتمسكون بمظاهره وقشوره، أو المظاهر والقشور التي تُنسب إليه، ويتجاوزون حقائقه ومقاصده وغاياته وأهدافه الإنسانيّة، وذكرت لها بعض المجموعات الإرهابيّة من أديان مختلفة التي برزت في أمريكا في بعض الفترات، ومنهم «ماكڤيّ»، مُفجّر مبنى أكلوهوما، والَّذِي ذهب ضحيته مَا يزيد عن (400 إنسان)، وأنَّ هذه الظاهرة مَا هِيَ بظاهرة خاصّة بالمسلمين، وأكدتُ لهاأنّ عددًا ممن قُتل فيمركز التجارة العالميّ كانوا من المسلمين، فقد قُتل مَا لا يقل عن ثلاثمائة وثمانين مسلمًا ومسلمة، وهي -بالنسبة لعددنا- أعلى نسبة ضحايا سقطت في هذا الحادث؛ ولذلك فيمكنك أن تطمئني بأنّ تلك الوجوه التي تخشينها هِيَ وجوه مسالمة، محبة للخير، تحترم جيرانها وتحبهم، وتحب أوطانها وتخلص لها، وتحب الخير للبشريّة كلها، فلا ينبغي لها أن تخشى أحدًا من هؤلاء على نفسها أو على مالها أو شرفها، وبعد نقاش -أخذمَا يقرب من ساعة- قالت: "أريد أن أعرف أكثر عن الإسلام وعنكم"، فدعوتها إلى حضور المناسبات التي نقيمها، وأذنت لها أن تحضر مَا تختاره من الدروس التي نقدمها، وبعد فترة لم تطل قَدِمِت لحضور درس من دروسي! إنَّ حادثة الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها قد أضرّت بالمسلمين وبالإسلام ضررًا بالغًا، وأضرّت بقضايا المسلمين الكبرى أضرارًا بالغة، ومَنْ يزعم غير ذلك فليذكر لنا أيّ نفع قد جرّته للمسلمين تلك العمليّات في داخل أمريكا والغرب أو في الخارج؟ فبين أيدينا بلدان مسلمان قد دُمّرا: أولهما أفغانستان وثانيهما العراق، فهل يُساوى تدمير البرجين تدمير هذين البلدين؟ وتحجيم الوجود الإسلاميّ في الغرب؟! إنّ هذه العمليّات يمكن أن تلفت أنظار الإعلام، ولكن من المستحيل أن تسقط دولًا أو تغيّر نظمًا أو خرائط في أمريكا أو أوروبا، فليتق الله أولئك الذين يفتئتون على الأمّة، ويفرضون أنفسهم ممثّلين لها أو نوابًا عنها رغم أنفها، ويتناسون ويتجاهلون «فقه الأولويّات» و«فقه الموازنات» و«فقه المآلات»وسائر أنواع الفقه الإسلاميّ، وليرحموا الأمّة التي لم تعد تدري من أين تأتيها الضربات، فقد وقعت النصال على النصال، فلم تعد تستطيع التمييز بين نصل يرميها العدو به ونصل يأتيها من الأبناء.