ارتبط في الذهنية الغربية طويلاً ازدواجية الخطاب الديني مع القهر الاجتماعي والسياسي، فالنظم السلطوية وعبر التاريخ ساعدت على ترسيخ تدين فلكلوري مظهري ، وعملت على " تديين" المجتمع شكلياً بخطاب ديني يؤصل لاستمرارية النظم السلطوية ويجعل بقاءها مرتبط بمشيئة الإرادة العليا، خطاب يدعوا دائماً إلى وجود سلطة سياسية تحكم وتدير وتؤكد في نفس الوقت على أهمية طاعتها والخضوع لها، وكان من الأهمية أن تدعم السلطة بطانة دينية تصبح بمثابة " وكلاء" للنظام تعمل طوال الوقت على الحفاظ على تسكين هذا الأمر وتكريسه في نفوس الشعوب والجماهير. لذا كان الدين في نظر كثير من الحركات الغربية التحررية هو أحد أهم مقومات بقاء هذه النظم التسلطية ، ومن ثم عملت كثير من تلك الحركات علي تنحية الدين ضمن استراتجيات أجندتها التحررية لليوصول إلي مجتمع يتميز بالديموقراطية والعدالة. لكن ظهرت في أمريكا اللاتينية رؤية مختلفة تماماً تؤمن بأن الدين ليس مشكلة في الأساس وإنما تكمن المشكلة في التأويل النصي الفاسد للنصوص الدينية؛ فبدأت تظهر حركات تقرأ الدين بصورة ثورية، وتعمل علي معالجة الخطاب الديني بما يتفق وواقع تعيشه تلك الأمم المغلوبة علي أمرها، بل وتتبني قراءة ثورية جديدة للإنجيل، واعتبار المسيح لم يأت مخلصاً فقط البشرية من ذنوبها، وإنما جاء مخلصا العالم من الظلم الذي يعيش فيه، واعتبروا أن القضية الأصلية التي جاءت بها المسيحية هي نصرة المستضعفين والمضطهدين، ومساعدة الفقراء والمظلومين مما جعلها تخوض غمار العمل المدني والسياسي. أطلق على هذا التيار أو هذه الحركة اسم "لاهوت التحرير" والتي ظهرت في ستينات القرن العشرين ، حيث بدأت تخرج بالكنيسة من عزلتها، وتعمل علي قراءة النصوص الإنجيلية قراءة تخدم الفقراء والمهمشين ، كما اعتبروا المسيحية الحقة هي ديانة الفقراء والمستضعفين ، وبدأ الدين يُستخدم كمعبئ أيدلوجي ضد أنظمة الاستبداد في أمريكا الجنوبية، وكان ذلك حل لأزمة تعانيها بعض الحركات الثورية التي تتواجد في مناطق تتميز شعوبها بالتدين والالتزام بالقيم الدينية مثل دول أمريكا اللاتينية. قراءة ثورية للكتاب المقدس لاهوت " " Theology هي كلمة لاتينية وتعني العلوم الإلهية وكل ما يختص بعلوم الوحي أو الإلهام بحسب التعبير المسيحي، أو التنزيل بحسب التعبير القرآني، وكلمة "libration " قادمة من التحرر ، التحرر من التبعية، التحرر من الحرفية في النص، التحرر من الظلمة والهيمنة الطبقية والسلطوية. تذكر الموسوعة البريطانية أن تاريخ ولادة لاهوت التحرير يؤرخ عادة مع بداية المؤتمر العام لأساقفة أمريكا اللاتينية في كولومبيا عام 1968، حيث أصدر الأساقفة في هذا المؤتمر وثيقة تؤكد على حقوق الفقراء وتقول بأن الدول الصناعية الكبرى قد اغتنت على حساب دول العالم الثالث. وقد كتب النص الأساسي لهذه الحركة (لاهوت التحرير - Teología de la liberación) عام 1971، بيد غوستاف غيتييرز وهو قسيس وعالم لاهوت من بيرو.. كان من أهم رموز تلك الحركة الثورية قس كولومبي يُدعي " كاميلو توريس " الذي قرأ المسيحية بشكل أضاف عليها بعداً ثورياً، وحول مفهوم " الحب " المسيحي المعروف إلى ثورة علي المستوي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وتكونت بسبب أرائه جماعات كاثوليكية عرفت ب" بجماعات الأساس " كانت من أهم وظائفها بجانب إعادة قراءة الكتاب المقدس بالمفهوم الذي ذكرناه، تطوير العمل المدني لخدمة المجتمع المهمش من قبل الأنظمة المستبدة وإمداده بالطعام والماء والكهرباء.. ومن أهم رموز حركة اللاهوت أيضاً " أوسكار روميرو " كبير الأساقفة في السلفادور، والذي عارض سياسيات نظام بلده المستبد والديكتاتوري وانحيازها للفقراء لصالح الطبقات الرأسمالية، ومعارضة هيمنة الولاياتالمتحدة علي مقدرات دول أمريكا اللاتينية .. كان من أهم كلمات روميرو التي استحث بها تلك الشعوب المقهور المظلومة علي مقاومة الاستبداد والقهر قوله " الإيمان الذي يكتفي بحضور قدّاس الأحد و يرضى بالظلم طوال الأسبوع لا يقبله الله". لاهوت التحرير والماركسية اختلف كثيرون في علاقة وتأثر حركة لاهوت التحرير بالفكر اليساري والماركسي بصفة خاصة، فالبعض يرى أن اللاهوتيين الجُدد تأثروا بالماركسية ويظهر ذلك في أغلب أطروحاتهم التي ترى المسيحية هي دين الفقراء، و بعضهم تتطرف إلى حد رفض إيمان الأغنياء و أصحاب السلطة، والالتحام العنيف الثوري بالسياسة . بل إن صلب الفلسفة اللاهوتية الجديدة هي بالأساس تنطلق من فكرة الجماعية على حساب الفردية حيث ركزوا على دور رجل الدين كخادم للمجموعة معتبرين ذلك أهم من حراسة العقيدة، وهم في العموم قدّموا خدمة الإنسان على مكانة العقيدة. بل أنهم أعادوا تعريف "الخطيئة" مركّزين على البعد الجماعي لها و الذي يسبب خللاً و تمييزاً اجتماعياً. فيما رأى باحثين آخرين عدم صحة هذا الترابط معتبرين أن التشابه بين طرح لاهوت التحرير والماركسية يرجع -بصفة أساسية- إلى الواقع المشترك الذي ولّد اهتمامات مشتركة وأفرز أفكارًا متشابهة كان القاسم المشترك بينها الرغبة في التغيير ورفض الواقع الذي أدى إلى الظلم والفقر، في حين كانت المنطلقات متباينة تمامًا، ففي حين تأثر يساريو أمريكا اللاتينية بموجة المد الشيوعي التي كانت قد اجتاحت المنطقة في الستينيات والسبعينيات كانت منطلقات ومصادر فكر آباء حركة لاهوت التحرير منطلقات مسيحية كنسية خالصة. أحد أهم أباء هذا التيار هو أوسكار روميرو الذي كان يردد دائما مقولته الشهيرة "الخطيئة الحقيقية هي الظلم وعدم العدالة في توزيع الثروات" ، وكأنه يبدو كمفكر يساري أصيل، كان من ألد أعداء الشيوعية، وكثيرًا ما هاجمها بعنف مؤكداً إيمانه المسيحي، وأن "الكنيسة" هي ظل الله في الأرض، وهو صاحب الشعار المعروف (الدين للفقراء) الذي يعتبر الدين المخلص للفقراء. وكتاب (الإنثروبولوجيا الاجتماعية) الذي كان بمثابة وثيقة عمل ورؤية نظرية لحركة لاهوت التحرير -رغم تأثره الواضح والكبير ببعض الأفكار الماركسية- نجد أن مؤلفه دون كوماس مالاخون كان يعكس فيه أفكاره كمسيحي ملتزم وليس كيساري، وكان دائم التأكيد على دور الكنيسة المسيحية رغم آرائه التحررية والثورية في كافة جوانب الحياة. والحقيقة أن الخلط السائد عند بعض المحللين بين أفكار حركة لاهوت التحرير وبين الأفكار اليسارية لا يرجع فقط إلى تشابه الواقع الذي أفرزهما، وإنما أيضًا إلى ما حدث من تعايش خلاق بينهما، ففي حين كان رجال لاهوت التحرير يتمتعون بانفتاح واسع ومتحرر على الفكر الإنساني على اختلافه بما فيه الفكر اليساري، كانت الحركات اليسارية في أمريكا اللاتينية تدرك طبيعة شعوبها وخلفيتها الدينية وتعي أنها شعوب مسيحية مؤمنة ومتمسكة بإيمانها المسيحي فلم تسع إلى الصدام مع الخلفيات الدينية لها بما سمح بالتعايش والتلاقح الفكري بين الجانبين، وهو ما أوجد نوعًا من التشابه بين أفكار كل منهما، وإن احتفظ كل فريق بمنطلقات ومرجعيات مغايرة للآخر. بالعموم كان تأثير هذه الحركة علي تلك المجتمعات كبيراً، حيث قامت بعدة ثورات مجتمعة كان أهمها الثورة الفكرية والتنويرية الكبيرة، التي أحدثوها في المجتمع اللاتيني الذي تأصل فيه الاستبداد وارتكن علي دعامة الجهل، كما قاموا بثورة اجتماعية حيث نشطوا في المجال الخدمي والخيري مما زاد من تأثيرهم وأكسبهم عطف ومساندة الشعوب اللاتينية الفقيرة، ثم التحموا بعدها بثورة الشوارع حيث تأثرت كل حركات المقاومة وحركات التحرر الثوري بهذا الخطاب وأمنت الشعوب بهذا الخطاب الجديد ضد أنظمة تحاربها وتقاومها طالما استغلت الخطاب المسيحي لها ستارا ومانعا لتضليل شعوبها . نحو لاهوت تحرير عربي المجموعات الدينية " التنويرية " كان لها دورها الرائد في التجارب التغييرية الكثيرة كتجارب "أمريكا اللاتينية" التي يصعب حصرها، وتجربة التغيير في الفلبين، ودور رجال الدين البوذيين في ميانمار.. بل في بعض الأحيان كانت هي تتصدر الحركة التغييرية نفسها كتجربة مارتن لوثر كينج وتجربته السلمية في الحصول على حقوق البيض في فترة الخمسينات والستينات بالقرن الماضي، والتجربة الأشهر القريبة من عالمنا العربي وهي تجربة الثورة الإسلامية الإيرانية. وبعيدا عن الدخول في منحى فرعي فيما وصلت إليه التجربة الإيرانية بعد الثورة؛ يتبقى لنا نطرح سؤالاً هاماً أليس التغيير المجتمعي والسياسي في العالم العربي يحتاج إلى لاهوت تحرير إسلامي يتبنى ما يعرف إسلامياً بفقه المقاصد، وسياسياً بما يُعرف " بالقضايا المركزية" والتي تشمل التركيز علي الحريات، والعدالة، والديموقراطية، والمساواة في الحقوق والواجبات، والاهتمام بسد الحاجات " الكفائية" للشعوب، خصوصاً وأن الشعوب العربية تتشابه مع الشعوب اللاتينية في تدينها، والالتصاق الحياتي بالدين وكون الأخير مكون أساسي في ثقافة تلك الشعوب فلا ينبغي إغفاله أثناء طرح مشروع تغيير نوعي ما. لكن من المهم ضمناً الأخذ في الاعتبار أن المشروع المتكئ على "خطاب لاهوتي " أو ديني سيكون مشروعاً ثقافياً حضارياً، يرتبط أكثر بعملية "التعبئة" وتثوير وتثقيف الشعوب أكثر من كونه مشروعاً دعويا -بالمصطلح المسيحي تبشيرياً - يقوم بالترويج لدين على حساب دين آخر.