د.مازن النجار \n\n تباينت الدراسات في السنوات الماضية حول أثر ظاهرة الاحترار وارتفاع درجات حرارة الطقس على وتيرة ونطاق وآلية انتشار الأوبئة، خاصة في المناطق المدارية الحارة بطبيعتها، وهي أيضاً مناطق استيطان عدد من أمراض وحميات المناطق الحارّة. وكانت دراسة أميركية سابقة قد وجدت أن زيادة محدودة أو ارتفاعاً طفيفاً في درجات حرارة الطقس يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع ملحوظ في انتشار مرض حمى الملاريا في هضاب ومرتفعات شرق أفريقية.\nناقضت هذه الدراسة، التي أجراها باحثون بجامعة مشيغن، أبحاثاً أخرى زعمت أنه لم تكن هناك زيادة في درجات حرارة طقس المناطق المرتفعة التي حدث بها ارتفاع لمستوى الإصابة بوباء الملاريا.\nوكان الافتراض الذائع تقليدياً لدى خبراء الأوبئة يقول بأن انتشار الملاريا يكون محدوداً في معظم الهضاب والمرتفعات، نظراً لاعتدال مناخها وانخفاض درجات الحرارة هناك. ويحد هذا الانخفاض بدوره من وجود وتكاثر البعوض الناقل للمرض. لكن الباحثين يشيرون إلى أن الارتفاع العالمي في درجات الحرارة، والذي لم يعد موضع خلاف في الأوساط العلمية ذات الصلة، يمكن أن يقلب هذه الوضع.\nوكانت مجلة \"نيتشر\" البريطانية قد نشرت، منذ سنوات، بحثاً يظهر أن مستوى الإصابة بمرض الملاريا هو في حالة صعود في بلاد بوروندي وكينيا ورواندا وأوغندا، رغم عدم ارتفاع درجات الحرارة في تلك البلاد. \nالانتشار وتذبذب الحرارة\nفي هذا المجال، ذكر باحثون أميركيون في اللقاء السنوي للجمعية الأميركية لتقدم العلوم (AAAS)، المنعقد مؤخراً بشيكاغو، أن تغير المناخ نحو الاحترار يؤثر في انتشار وباء الملاريا بطرق أكثر تعقيداً مما كان يعتقد في السابق، وفقاً لتقرير ‘‘دِسْكڤري نيوز''.\nوبحسب الدكتور ماثيو تومَس، عالم الحشرات بجامعة بنسلڤانيا، لا تعتمد قدرة الملاريا على الانتشار على كيفية تغير درجة الحرارة فقط، من شهر لآخر ومن سنة لأخرى، بل تعتمد أيضاً على طريقة تذبذب درجات الحرارة خلال اليوم الواحد.\nولدى النظر في أنماط المناخ بمزيد من التفصيل، تشير البيانات الجديدة لأن العلماء ربما يحتاجون لإعادة النظر بتنبؤاتهم حول مواقع اجتياح الملاريا القادم. وربما يبالغ البعض في تقدير مخاطر البيئات الأكثر احتراراً، لكنهم يقللون مخاطر البيئات الأكثر برودة، فربما يتراوح الخطأ هنا بين 50 و100 بالمائة أو أكثر.\nويرى خبير آخر، هو البروفسور كريس توماس من جامعة إيبريستويث البريطانية، أن العواقب هائلة، فهناك ملايين الأطفال يموتون سنوياً بسبب الملاريا في أفريقيا، وبمعدل طفل واحد كل 30 ثانية، برغم أن المرض المسبب للوفاة يمكن الوقاية منه ومعالجته.\nبيد أن الأمور تتفاقم. فمع ظاهرة الاحترار العالمي، تنتشر الملاريا إلى أقاليم جديدة، رغم أن العلماء لا يعرفون بالضبط أين ومتى وكيف ستتغير وتائر أو أنماط انتشار واندلاع المرض.\nويرى الدكتور تومَس، أن أحد أسباب عدم اليقين هو أن معظم نماذج (المحاكاة) التنبؤية تأخذ بالاعتبار زيادة متوسط درجات الحرارة على مدى أيام أو أشهر أو ربما سنوات.\nبيد أن توقعات المناخ تنبئ أيضاً بزيادة الأحداث المناخية القاسية، علاوة على تصاعد التباينات والتغيرات المترافقة مع ارتفاع سخونة الغلاف الجوي. ففي اليوم الاعتيادي، لمكان تنتشر به الملاريا في تنزانيا، يبلغ متوسط درجة الحرارة 25 مئوية، لكنها تهبط بالليل إلى 15 درجة مئوية وتصل بالنهار 32 درجة مئوية.\nأطوار طفيل الملاريا\nيعتقد الدكتور تومَس أن هذه الذروات والانخفاضات قد تؤثر في انتشار وانتقال بعوض الأنوفيليس، الذي تقوم إناثه بنقل الطفيل المسبب لحمى الملاريا، من خلال عدة طرق.\nعندما تشرب البعوضة دم شخص مصاب، فإن هذه الحشرة تبتلع أيضاً طفيل الملاريا، الذي لا بد أن يمر بعدها بطور حضانة وتكاثر قبل أن ينتقل إلى لعاب الحشرة.\nهذه العملية يمكن أن تستغرق أسابيع. ونظراً لأن البعوض صغير جسديا وبارد الدم، فإن درجات حرارة البيئة، خارج جسم البعوضة، لها أثر كبير في الزمن الذي يستغرقه البعوض قبل أن يتمكن من نقل المرض. فإذا حدث هذا ببطء شديد، تموت الحشرات قبل أن تتمكن من عدوى أي شخص بالمرض.\nعلى وجه العموم، يتمكن طفيل الملاريا من الحراك والعدوى، على نحو أفضل، لدى ارتفاع درجات الحرارة، وهذا هو السبب الذي يجعل المرض يحدث في أغلب الأحيان في البيئات المدارية.\nولكن باستخدام نماذج المحاكاة الرياضية، وجد الدكتور تومَس أنه حتى عندما تكون ظروف الطقس دافئة، فإن تذبذب درجات الحرارة الشديد على مدار اليوم الواحد، يُبَطِّئ وتيرة حضانة الطفيل وتطور اليرقات في جسم البعوضة.\nوهذا بدوره يُبَطِّئ انتشار المرض، ويشير إلى أن المناطق الحارة هي أقل تعرضاً لمخاطر اندلاع وباء الملاريا مما درج العلماء على ترجيحه.\nالجهل ببيولوجيا البعوض\nمن جهة أخرى، وفي درجات حرارة باردة نسبياً، يؤدي تذبذب درجات الحرارة إلى تسريع العمليات البيولوجية (الحيوية)، وهذا ما قد يساعد على تفسير السبب الكامن وراء انتشار الملاريا بالفعل في مناطق باردة تقليدياً مثل مرتفعات وهضاب شرق أفريقيا.\nهذه المناطق، التي تقع على أطراف مناطق انتشار الملاريا الراهنة، تثير قلقاً بالغاً في هذا السياق، نظراً لأنها فقيرة وريفية، ولم تتعرض من قبل لوباء الملاريا. والناس هناك ليس عندهم مناعة قائمة ضد المرض، ولذلك يمكن للأوبئة أن تكون في ظل تلك الظروف سريعة الانتشار ومهلكة.\nتؤكد دراسة ماثيو تومَس أيضاً على مسألة أخرى هامة، تدور حول قلة ما يعرفه العلماء عن البيولوجية الأساسية للبعوض. ولا شك أن التعرف على العدو هي السبيل الوحيد لتحديد أين ينبغي أن تُوَزّع ناموسيات (شباك) النوم الواقية من البعض، وأين ينبغي رش المبيدات، وتخصيص الموارد الضرورية المحدودة الأخرى.\nيقول، البروفسور أندرو دوبْسُن، عالم الإيكولوجيا (البيئة) في جامعة برنستن الأميركية، رغم أن خارطة جينوم بعوضة الأنوفيليس بكامله أصبح متاحاً لعلماء الحشرات والبيئة والأوبئة، لكن ذلك لا يُنْبِئ بشيء ذي شأن عن الكيفية التي تؤثر بها درجات الحرارة في حياة وسلوك البعوض.\nلذلك، لا تزال الحاجة قائمة لطرق أفضل للتنبؤ بالمكان الذي ستحدث به الملاريا.