ومما لا شك فيه أن الولاياتالمتحدة الأميركية ستثني على هذه الخطوة التاريخية للحزب الليبرالي الياباني وستعتبر أن طوكيو تنطلق بالاتجاه الصحيح من أجل التحول إلى شريك عسكري موثوق ومسؤول لواشنطن على المستوى الإقليمي في آسيا وعلى المستوى الدولي في العالم. لكن عدداً من الدول الأخرى الآسيوية المجاورة ستتولد لديها مخاوف من تحرير «الجني» الياباني من قمقمه بعد مرور ستين سنة على انتهاء دوره العسكري في الحرب العالمية الثانية. والمعروف أن الدستور المعمول به في اليابان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية فرضته الولاياتالمتحدة الدولة المنتصرة وهو دستور يحظر على اليابان إنشاء قوة عسكرية كبيرة أو رصد ميزانية تطوير عسكري كبيرة النفقات. ومنذ عام 1955 كان الحزب الليبرالي الياباني عند تأسيسه قد دافع عن هذا الدستور السلمي والتزم به حتى حين أصبح الحزب الحاكم في تلك السنوات. وفي الأسبوع الماضي اقترح الحزب الليبرالي لأول مرة تغيير الدستور السلمي القديم والتصويت على دستور جديد، وأعد لهذا الغرض معظم مواد هذا الدستور المقترح وسوف يعرضه على المؤتمر العام الذي سيعقده الحزب في 22/11/2005 بمناسبة مرور خمسين عاماً على تأسيسه. ومن بين المسودة الجديدة للدستور الجديد: 1 إعادة صياغة المادة (9) التي تحمل غموضاً ملحوظاً حول السياسة الدفاعية اليابانية بحيث يجري التأكيد فيها على دور القوة العسكرية في تحقيق الدفاع الذاتي الياباني. 2 مشاركة أكثر فاعلية في النشاط التعاوني للسلم العالمي. ويذكر أن الدستور الحالي يحمل تفسيراً يمنع وجود جيش ضخم كبير وقوة عسكرية واسعة، لكن هذا التفسير لم يمنع اليابان من إنشاء جيش من (240) ألفاً من القوات التي أطلق عليها «قوات الدفاع الذاتي» ومن إنفاق ميزانية كبيرة على هذه القوات. ومع ذلك، كانت مختلف الحكومات اليابانية المتعاقبة تعلن أن هذا الجيش للدفاع الذاتي فقط وليس للهجوم أو التوسع. 3 إطلاق مشاعر الاعتزاز القومي الياباني والتأكيد على حب «الأمة والوطن» والتاريخ والثقافة اليابانية. فهذه الفقرات غير موجودة في الدستور الحالي ولا ذكر لها. وقد ازدادت رغبة الحزب بتعديل الدستور الياباني في أعقاب الانتصار الانتخابي الباهر الذي حققه الحزب الليبرالي حين فاز في الانتخابات التي عقدت في 11 أيلول/ سبتمبر الماضي ب (323) مقعداً من (480) مقعداً أي ما يزيد على الثلثين من مقاعد الجمعية الوطنية (البرلمان). ويبدو أن الحزب الحاكم لن يعترض أمامه الحزب الديموقراطي (المعارض) على تغيير الدستور، وهذا ما يجعل الرغبة بالتعديل شبه إجماعية تقريباً. ويوجد في اليابان مجلسان تشريعيان البرلمان والمجلس الأعلى ويتمتع الحزب الليبرالي في المجلس الاستشاري الأعلى بثقة أقل من ثلثي المقاعد، لكنه قادر على نيل دعم وتأييد من مقاعد الحزب الديموقراطي في هذا المجلس. وتنص المادة (96) من الدستور الحالي على ضرورة موافقة ثلثي أعضاء المجلسين (البرلمان الدايت) والمجلس الأعلى على أي تغيير لمواده ثم يتعين بعد ذلك عرض مشروع الدستور الجديد على استفتاء عام يشارك فيه الجمهور الياباني ونيل الموافقة عليه بأغلبية عادية. وكانت الدعوة لأي توجه بزيادة القوة العسكرية اليابانية أو التأكيد على الكبرياء القومي الياباني يجري التنديد بها في السابق داخل اليابان أو في الولاياتالمتحدة وأوروبا لأنها كانت توحي بإمكانية استعادة اليابان لدورها القومي الإمبريالي الذي خسرته بعد الحرب العالمية الثانية. لكن الوضع بدأ يتغير منذ سنوات قريبة في اليابان التي أخذ الركود الاقتصادي يزداد فيها إلى حد جعل مداخيل اليابانيين تميل إلى الانخفاض، إضافة إلى زيادة نسبة الجمهور الذي يشعر بعدم الأمان والطمأنينة من الدول المجاورة. ولذلك كان من الطبيعي أن تظهر مناقشات حول مسائل كانت من المحرمات في ماضي اليابان في العقود الماضية. فثمة مناقشات عامة وفي الدوائر الإعلامية والسياسية تجري حول دعم فكرة امتلاك اليابان أسلحة نووية للدفاع عن نفسها. وبدأت تزداد في الآونة الأخيرة مظاهر القلق والخوف من احتمالات وجود أخطار وتهديدات تشكل الصين وكوريا الشمالية مصدراً مهماً لها. وإلى جانب كل هذه المبررات الداعية إلى تغيير السياسة العسكرية لليابان تتعرض حكومة اليابان منذ فترة قريبة لضغوط كبيرة من الولاياتالمتحدة التي تلح على طوكيو بضرورة تحمل الأعباء التي تفرضها السياسة الخارجية والعسكرية الأميركية على المستوى الإقليمي في آسيا وعلى المستوى العالمي أيضاً. وهذا ما سوف يجعل مبرر وجود دستور جديد لا يرتبط بالكبرياء القومي فحسب، بل بمواجهة التحديات الجديدة التي تنتظرها اليابان. ويترافق مشروع وضع دستور جديد مع المناقشات الجارية بين طوكيو وواشنطن حول المراحل النهائية وإعداد تقرير عن إعادة تعديل شكل الوجود العسكري الأميركي في اليابان. فالولاياتالمتحدة تأمل من اليابان أن تتحول إلى محور استراتيجي في خدمة سياستها الأمنية العالمية عن طريق زيادة دورها العسكري وتخفيف الأعباء عن قواتها المنتشرة في اليابان. ويتصادف الاهتمام بتغيير الدستور الياباني مع الانتقادات التي توجهها الصين وكوريا الشمالية ضد رئيس الحكومة كويزومي لأنه قام بزيارة رسمية لصرح (ياسوكوني) في طوكيو في 17/10/2005 للإعراب عن إجلاله لقتلى الحرب اليابانية الذين يعتبرون مجرمي حرب بعد هزيمة اليابان. ويمثل صرح الجندي المجهول الياباني هناك مقتل (4،2) مليون من اليابانيين من بينهم (14) جنرالاً اعتبرهم الحلفاء المنتصرون مجرمي حرب يحظر على الحكومة اليابانية تخليد ذكراهم. واليابان لا يوجد في حكومتها وزارة دفاع لأن الدستور الحالي يعتبر المادة رقم (9) فيه لا توفر سوى وجود محدود لقوات دفاع ذاتية يُديرها ما يطلق عليه في اليابان «وكالة دفاع» تتمتع بصلاحيات أقل من صلاحية وزارة. لكن الكثيرين من رجال القانون في الحزب الليبرالي بدأوا الآن بالدعوة لتحويل هذه الوكالة إلى «وزارة للدفاع» كاملة وذات صلاحية. وعلى الرغم من أن المسودة المعدة للدستور الجديد لا تحدد وجود حق لليابان بالاستعانة بدور عسكري لدولة حليفة إذا ما تعرضت لعدوان أو هجوم خارجي وهو ما يتحسس منه الجمهور، إلا أن هذا الحق ستتمتع به أي حكومة يابانية من خلال الإشارة إليه في تفاصيل «قانون الأمن الأساسي» الذي سيوضع ملحقاً في الدستور. ويحاول كويزومي على غرار من سبقه في قيادة الحزب الليبرالي توسيع حدود الدستور الجديد ويعتبر أن الدستور الحالي تمّ توسيع حدوده حين وافقت الحكومة على إرسال قوات «من الدفاع الذاتي الياباني» إلى العراق. ولذلك يرى معظم رجال القانون في الحزب الليبرالي أن على اليابان التمتع بحق ممارسة «دفاع ذاتي شامل» لكي يتوفر لها تنفيذ اتفاقات تعاون عسكري وأمني متزايد مع الولاياتالمتحدة بشكل فعال ومريح.. وجاء في مقدمة الدستور الجديد المقترح من الحزب الليبرالي أن «استقلال اليابان تنبغي حمايته عن طريق جهود كل من يحب الأمة اليابانية». وبهذه العبارة يتسع تفسير الحق «بالدفاع الذاتي» على خلاف الدستور الحالي الذي لا يعطي مثل هذا التفسير لحق الدفاع الذاتي. وتحمل بعد فقرات المقدمة المقترحة تفسيرات بعيدة حين تؤكد على «التزام الدولة بالمساهمة في السلام الدولي وسوف تعمل جنباً إلى جنب مع الدول الأخرى من أجل تحقيقه».. ولا ننسى أن دولاً أوروبية تقاتل في أفغانستان باسم المساهمة «بالسلم العالمي». وتؤكد المقدمة على أن اليابان تدعو إلى الالتزام بمبادئ «التعاون الدولي، والحرية، والديموقراطية وحقوق الإنسان، والسلام» واعتبارها المبادئ الأساسية لدولة اليابان. وتحمل المسودة ما يشير إلى الاهتمام بزيادة الاعتزاز بالشعور القومي الياباني، وذلك من خلال التطرق إلى الإشادة بالتقاليد والثقافة اليابانية وبتاريخ اليابان ونظامه الإمبراطوري. وكان الحزب الليبرالي قد عمل منذ فترة على إعادة النظر في قانون التربية الثقافية الأساسي المتبع في اليابان، واعتبر آخرون أن هذه المراجعة تدل على محاولة النهوض بالشعور القومي الياباني وإثارته. ففي آب/ أغسطس 1999 صادق البرلمان على قانون أثير الاختلاف حوله، واعترفت فيه اليابان بعلم «الشمس المشرقة» كعلم قومي وبنشيد قومي يتناسب معه. ويجد الحزب الليبرالي مؤيدين مهمين له في الدعوة إلى تغيير الدستور ومنهم الحزب الديموقراطي الياباني وهو من أكبر أحزاب المعارضة التي تدافع عن تعزيز علاقات التحالف مع الولاياتالمتحدة، وعن إعادة النظر بالدستور. ويقول قادة الحزب إن مناقشة مسألة حق اليابان بالدفاع عن نفسها بشكل جماعي لن تحمل أي معنى إذا لم يأخذ في حسابه ضرورة التحالف مع الولاياتالمتحدة. ويتولى مايهارا زعيم الحزب الديموقراطي العمل منذ الآن على وضع اقتراحات باسم الحزب لصياغة دستور جديد من أجل منافسة الحزب الليبرالي على هذه القضية. وسوف يعرض الحزب الديموقراطي اقتراحاته في بداية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر والتي ستتضمن الإشارة إلى توسع مفهوم «حق الدفاع عن النفس» بما يتفق مع ميثاق الأممالمتحدة والمشاركة في القوات الدولية لحفظ السلام حتى لو اضطر ذلك الهدف إلى استخدام القوة العسكرية. وفي المقابل، ما زال حزب (كوميتو الجديد) الذي تناصره المنظمة «البوذية» (سوكاغا كاي) لم يقدم رأيه النهائي في مسألة إعادة صياغة وتعديل المادة (9) التي تتعلق «بالدفاع عن النفس». أما أحزاب المعارضة الأخرى مثل الحزب الشيوعي الياباني والحزب الاشتراكي الديموقراطي فما زالت ترفض بشدة أي تغيير في الدستور وأي مراجعة لفقرة واحدة من فقراته. وفي خارج الدوائر السياسية اليابانية تزداد الدعوة لدى مجموعات الضغط التي تمثل الشركات اليابانية ومن بينها «اتحاد رجال الأعمال اليابانيين» الذي يرأسه هيروشي إيكودا صاحب شركة تويوتا من أجل تغيير الدستور الحالي، وخصوصاً المادة التاسعة. ويرى إدوارد لينكولن أحد المسؤولين في «مجلس العلاقات الخارجية» الأميركي أن الدستور الجديد لن يكون جاهزاً إلا بعد سنة أو سنتين. ويعتبر لينكولن أن الانتصار الانتخابي الذي حققه الحزب الليبرالي الياباني في 11 أيلول/ سبتمبر واهتمامه بتغيير الدستور سيعجلان في إعداد الدستور الجديد. لكن دراسة لاستطلاع رأي الجمهور الياباني حول تغيير الدستور جرت في 5/10/2005 أشارت إلى وجود ثلثين من هذا الجمهور يرفضان تغيير المادة التاسعة رغم أن أغلبيتهم توافق على إجراء تغييرات في مواد أخرى في الدستور الحالي. ويذكر أن الدستور الحالي قد تمت صياغته في 3/11/1946 وسرى مفعول العمل به رسمياً في 3/5/1947 ولم يطرأ أي تعديل أو تغيير في أي فقرة فيه منذ ذلك الوقت. أما ألمانيا التي فرض عليها كدولة مهزومة في الحرب العالمية الثانية على غرار اليابان دستور مماثل لدستور اليابان الحالي فقد أجرت عليه تغييرات وتعديلات في أربعين مرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية كان آخرها عام 1990 حين توحدت الألمانيتين الشرقية والغربية. وكانت اليابان قد حاولت عام 2000 الشروع في تغيير الدستور حين شكلت لجاناً لدراسته من البرلمان ومن المجلس التشريعي الأعلى، وهي المرة الأولى التي تجري فيها مناقشة مثل هذا الموضوع رسمياً. وفي النهاية، قدمت اللجان نتائج دراستها بعد خمس سنوات من المناقشات التي سادت فيها أفكار محامين من الحزب الاشتراكي الديموقراطي، والشيوعي ولم يتحقق أي إجماع لهذا الهدف وخصوصاً تجاه المادة التاسعة. والمعروف أن البرلماني الياباني لا يتمتع لوحده بحق تغيير الدستور ولا بد من موافقة ثلثي المجلس التشريعي الأعلى الآخر. وإذا عدنا إلى الوراء سنجد عملياً أن الانعطافة الهامة في السياسة العسكرية والأمنية اليابانية في اتجاه العمل العسكري كانت قد وقعت في التسعينات بعد غزو صدام حسين للكويت في صيف عام 1990 واشتعال نار حرب الخليج الأولى في عام 1991. وفي ذلك الوقت تولت الولاياتالمتحدة قيادة قوات التحالف التي انتشرت في الشرق الأوسط لتحرير الكويت ودفعت اليابان (13) مليار دولار لهذه القوات ولم ترسل أحداً من قوات الدفاع الذاتي اليابانية للمشاركة في تلك الحرب. واتهمت واشنطناليابان بأنها تتبع سياسة دفع الشيكات لأغراض ديبلوماسية وتمتنع عن المشاركة الفعلية وإرسال الجنود اليابانيين إلى المنطقة. وبعد انتهاء هذه الحرب اعتبرت اليابان أنها قامت بخطوة كبيرة حين أرسلت ضباطاً وجنوداً بمهمة البحث عن الألغام وإزالتها من أرض المعركة لإنقاذ العراقيين والكويتيين من آثار الحرب. وبعد هذه التجارب بدأت اليابان بتشكيل هيئة يابانية تشرف على توسيع مشاركتها في نشاطات التعاون الدولي من أجل السلم. وفي حزيران/ يونيو 1992 أصدرت اليابان تشريعاً جديداً يعطي إمكانية مشاركة قوات يابانية في عمليات حفظ السلام التي تجري تحت رعاية الأممالمتحدة. وبموجب هذا التشريع أرسلت اليابان جنودها إلى كمبيوديا قبل إجراء أول انتخابات فيها عام 1993، وكانت هذه هي المرة الأولى التي ينتقل فيها جنود يابانيون مسلحون للعمل في بلاد أخرى منذ الحرب العالمية الثانية. ثم بدأت الحكومة بإرسال قوات إلى موزامبيق، ومرتفعات الجولان السورية وإلى تيمور الشرقية وأماكن أخرى في إطار قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. لكن هذا التشريع الذي يسمح للحكومة اليابانية بإرسال القوات ضمن إطار عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة يتحدد بموجب أربعة مبادئ أساسية يابانية هي: 1 أن يكون هناك اتفاق لوقف النار بين الفرقاء في النزاع. 2 أن توافق الدولة التي تستضيف على أرضها هذه القوات على عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة فوق أراضيها، إضافة لموافقة الأطراف الأخرى في النزاع. 3 نزاهة عمليات حفظ السلام وعدم انحيازها لأي طرف. 4 أن لا يجري استخدام السلاح في هذه المهام إلا عند الدفاع عن النفس فقط. وإذا لم تتوفر هذه الشروط في أي عمليات حفظ سلام، فإن اليابان لها الحق فوراً باستعادة قواتها. ولذلك كانت القوات اليابانية هذه لا ترد على أي نيران إذا ما هوجمت بعض قوات أجنبية أخرى تشارك في حفظ السلام تحت علم الأممالمتحدة إلى جانب القوات اليابانية. لكن كويزومي وتوجهه نحو تعزيز العلاقات العسكرية مع واشنطن والضغوط التي تمارسها إدارة بوش على الحكومة اليابانية بزيادة حجم وقوة الجيش الياباني وتحريره من قيود الدستور القديم بدأت تؤدي إلى ما يدعو للاعتقاد بأن اليابان تسير على طريق استعادة دورها العسكري في آسيا بشكل خاص. ولذلك كان من الطبيعي أن يشعر عدد من قادة دول آسيا وفي مقدمتهم قادة الصين بالقلق من احتمالات عودة القوة العسكرية اليابانية إلى ساحة العمل والتأثير في آسيا واستغلال تحالفها الوثيق مع واشنطن لتحقيق مطامع إمبريالية مشتركة. \r\n \r\n