وبالنسبة إليّ، ينطوي الحدث على معنى شخصي، فمنذ يناير/كانون الثاني الى ابريل/نيسان ،2004 شغلت منصب مستشار رفيع لحكومة "التحالف"، وبالعمل خارج مكتب "الحكم"، في مطبخ القصر السابق لصدام حسين، شاركت في كثير من جوانب التحول السياسي، ومن بينها وضع مسودة دستور مؤقت، وقد رأيت الاحتلال الأمريكي من الداخل بخيره، وشره، وقبيحه. \r\n \r\n جرى تسليم السلطة وفق الجدول المخطط بل أسبق من الموعد المقرر بيومين وكان ذلك لفتة إيجابية إثر سلسلة من الأخطاء والانتكاسات الأمريكية، وفي الحقيقة، تمّ نشر بذور التمرد الذي يحصد نحو 100 من أرواح العراقيين كل أسبوع خلال الأيام القليلة الأولى التي أعقبت الحرب، عندما أبدت أمريكا من الغرور والغطرسة أكثر مما أبدته من التعقل والمنطق. \r\n \r\n ومع أن ادارة الرئيس جورج دبليو بوش تحاول الآن إصلاح الأمور، ومن أبرز مساعيها في ذلك الشأن تأييد اشراك السنة في العملية السياسية، إلا أنه ستمضي سنوات قبل انهاء العنف وبناء ديمقراطية قابلة للعيش. \r\n \r\n وعلاوة على ذلك، إذا كان لأمريكا أن تستعيد ثقة العراقيين وأن ترعى شراكة حقيقية، فإنه يجب علينا أن نبرهن على أن ما يهمّنا حقاً هو الديمقراطية في العراق وليس القواعد العسكرية الأمريكية الدائمة. \r\n \r\n ولم يكن تسليم السلطة هو المعلم المبكر الوحيد بعد النجاح العسكري الأمريكي السريع، ففي مارس/آذار، حصل العراق على دستور مؤقت جديد يصون الحريات الفردية، وعقد صفقة تاريخية بين الأقلية الكردية والغالبية العربية، وصوت أكثر من نصف العراقيين المؤهلين للانتخاب، بشجاعة في يناير/كانون الثاني لمصلحة برلمان انتقالي سوف يتبنى دستورا دائماً، وعندما يتحقق ذلك، ستأتي الانتخابات لاختيار حكومة جديدة. \r\n \r\n ولكن ما طغى على كل ذلك، هو هجمات حرب العصابات التي لا تلين، وعمليات الخطف والاغتيال، وتفجيرات الطرق والاشتباكات، وتفجيرات السيارات الانتحارية، ومنذ لحظة سقوط بغداد، في ابريل/نيسان ،2003 وتدمير معظم البنية التحتية العامة بصورة منظمة، أخفقت الولاياتالمتحدة في النهوض بأعباء أول الالتزامات التي تقع على عاتق قوة الاحتلال في العادة: وهو إقرار النظام والحفاظ عليه، وفشلت قوات "التحالف" (الأميركية في معظمها) في بسط الأمن على المدن العراقية، والطرق وشبكات الكهرباء، وخطوط انابيب النفط والحدود، ومضى التمرد العنيد، الذي يستمد العون والقوة من سيل متصاعد من "الجهاديين" الأجانب، في تخريب الطرق والمرافق الأساسية بالسرعة التي يجري بها إصلاحها. \r\n \r\n وليس مدهشاً أن العراقيين قد فقدوا الثقة بالأمريكيين سريعاً. فهم الآن مرغمون على أن يواجهوا، بدلاً من صدام، خوفاً جديداً يتسبب في الشلل وهو الخوف من الفوضى، ومن الأشكال المختلفة والمتعددة، لما يُحتمل ان يتعرضوا له من هجوم عنيف وموت مفاجئ. \r\n \r\n وعلى مدى فترة الاحتلال كلها، كان هنالك توتر بارز بين الهدف المثالي، وهو بناء الديمقراطية، وبين الرغبة من جانب الأمريكيين، في الاحتفاظ بالسيطرة لصياغة نوع معين من الديمقراطية العراقية. \r\n \r\n وبالطبع فليس ثمة ما هو أكثر غطرسة وأشد وقاحة من أن يقدم بلد ما على احتلال آخر، ويعيد صياغة نظامه السياسي. وكان هذا هو أحد الأسباب الكامنة وراء مبادرة كثير من الخبراء في الشأن العراقي إلى تحذير الولاياتالمتحدة من مغبة تنصيب نفسها قوة احتلال هناك، لأن هذا سوف يجابه بمقاومة عنيفة مستدامة. \r\n \r\n غير أن أمريكا قامت باحتلال العراق على أي حال، وحصل ما حصل، وبطريقة تنضح بالعنجهية والغرور في أغلب الأحيان، وغطرسة شنيعة مردّها إلى المعلومات المضللة التي جرّت الولاياتالمتحدة إلى إساءة قراءة الواقع الماثل أمامها. \r\n \r\n ثم كانت هنالك أيضاً أخطاء كبرى في رسم السياسة وصياغة مساراتها. وكان أخطر تلك الأخطاء الفادحة القرارات التي صدرت في مايو/أيار 2003 بعيد وصول رأس الاحتلال الأمريكي، بول بريمر الثالث، والتي قضت بتسريح 400 ألف جندي عراقي، وحل الجيش العراقي، وطرد فئة ضخمة من الناس الذين وصفوا بأنهم أعضاء في حزب البعث المنحل من الخدمة العامة وخسرانهم لوظائفهم، وجاءت هذه القرارات صفعة في وجه أولئك الخبراء الذين حذروا من عواقب المضي قدماً في هذه الأساليب الرعناء التي تذل الكثير من العراقيين، وتنأى بالطائفة السنية عن المشهد برمته، وترغمها على العزوف عن المشاركة في العملية السياسية، وتزعزع استقرار البلد، وتمد التمرد بزاد سياسي مستمد من السخط العارم وتدعم هذا التمرد بمتطوعين ناقمين جدد مسلحين. \r\n \r\n ومن أجل تحقيق سلام دائم في العراق، يتعيّن على أمريكا أن تقوم بتقديم تنازلات بما في ذلك التعهد الصريح بعدم السعي لإقامة قواعد عسكرية دائمة في العراق، وربما لن يكون هناك موضوع خلال السنوات المقبلة يكشف بوضوح أكثر الهدف الحقيقي لمهمة إدارة بوش بعد الحرب في العراق وما إذا كان هو بناء الديمقراطية أم الحصول على قاعدة عسكرية جديدة وإقليمية في قلب العالم العربي. \r\n \r\n وعلى الجميع أن يحرصوا على عدم ارتكاب خطأ حول حقيقة واضحة: فبينما يشعر العراقيون بالسعادة للتخلص من صدام حسين، إلا أنهم أيضاً يريدون استعادة وطنهم. وفي حال قمنا فقط بتوضيح أننا سنسحب قواتنا العسكرية عندما يستقر العراق سنتمكن من إيجاد البيئة السياسية التي يستطيع العراق فيها أن يصبح آمناً من جديد. أما الخيار الآخر فسيجعلنا نغوص إلى أجل غير مسمى في مأزق العنف الدموي في العراق. \r\n \r\n \r\n \r\n * زميل في معهد هوفر التابع لجامعة ستانفورد، خاص من خدمة "صحف نايت ريد"/"كي.آر.تي." \r\n