وفي اليوم الذي جرى فيه اعلان هذين القانونين حدث ان تقطعت اوصال ثلاثة جنود اميركيين بفعل قنبلة وضعت على جانب احد شوارع شمال بغداد، وهو الحادث الذي كان واحدا من اصل اكثر من 60 هجوما شنت على القوات الاميركية خلال عطلة نهاية الاسبوع. وعلى الرغم من تلك الاجواء كان بريمر قلقا من شيء اخر هو المعايير التي تحكم قيادة السيارات في العراق. \r\n \r\n سيكون من الصعب ان نجد مثالا اكثر سخفا وهزلا من هذا على فشل بريمر وعدم قدرته على تفهم طبيعة الكارثة التي تسبب فيها هو وسلطة الاحتلال التي كان يتولى رئاستها، ان الامر ليس مجرد ان سلطة الاحتلال المؤقتة، التي تحولت الان الى سفارة قوامها 3000 موظف اميركي، كانت بعيدة عن الاحداث فتلك السلطة لم تكن حتى تعيش على كوكب الارض. \r\n \r\n لقد انتهى دور البطولة الذي كان يلعبه بريمر عندما غادر بغداد على متن طائرة عسكرية اميركية يرافقه اثنان من المرتزقة، يدفع الاميركيون رواتبها، يلوحان بشكل تهديدي بالبنادق امام عدسات كاميرات الصحافيين، ويسير كل منهما وقد وجه ظهره الى الطائرة ووجهه الينا من اجل حماية بريمر، حتى اغلق باب الطائرة، وعلينا ان نتذكر هنا ان بريمر كان قد عين في منصبه هذا لانه كان خبيرا في مكافحة الارهاب. \r\n \r\n ومعظم الاميركيين الذين عملوا في سلطة الاحتلال المؤقتة وخرجوا من بغداد يفعلون حاليا ما كنا نعتقد نحن دائماً انهم سيفعلونه عندما يفرغون من محاولة وضع وتثبيت احدى علامات الايديولوجيا الاميركية على العراق «الجديد» فهؤلاء اتجهوا لواشنطن للعمل في اطار حملة اعادة انتخاب بوش لفترة رئاسية ثانية، غير ان هؤلاء الذين بقوا في «المنطقة الدولية» اي هؤلاء الذين عليهم الادعاء بأنهم لا يمثلون سلطة الاحتلال لا يخفون احساسهم باليأس، فقد قال احدهم مؤخرا: \r\n \r\n لقد ذهبت الايديولوجيا وذهبت الطموحات، لم يعد لدينا اهداف، نحن نعيش اليوم لننتظر يوما اخر، ان كل ما نحاول فعله الان وكل هدفنا هو ان نبقي على الامور، كما هي حتى يناير 2005. «الموعد المفترض لاجراء اول انتخابات عراقية» فهذ هو هدفنا الوحيد، ان نظل حتى الانتخابات ثم نخرج بعيدا بعد ذلك. \r\n \r\n ولذلك كان ظهور صدام حسين امام «محكمة» في بغداد مؤخرا في واقع الامر كان صدام جالسا اثناء تلك المحاكمة في احد قصوره السابقة اخر بطاقة في يد المحتلين، فبعد ذلك لن يكون هناك المزيد من «الاخبار السعيدة» في العراق، ولن يكون هناك المزيد من الحيل والالاعيب. \r\n \r\n ولا المزيد من عمليات الاعتقال التي تسعدنا قبل انتخابات نوفمبر المقبل في الولاياتالمتحدة، الا انه حتى تلك الدراما التي شهدتها محاكمة صدام كانت مؤشرا على مدى محدودية وضآلة تلك السلطة التي سوف يكون الغرب مستعدا للتنازل عنها للعراق والتي ادعى الغرب زورا وافتراء انه سينقل «السلطة كاملة» اليه مؤخرا. \r\n \r\n يواصل الاميركيون اعتقال صدام في قطر وليس في العراق، وقام الاميركيون بادارة المحاكمة التي خضع لها صدام والمدنيون الذين حضروا المحاكمة كانوا جنوداً أميركيين متنكرين في ملابس مدنية. وقام المسئولون الاميركيون باخضاع شرائط تسجيل الجلسة الى رقابة مشددة وكذبوا بشأن رغبة القاضي في تسجيل وقائع الجلسة، وقام ثلاثة ضباط أميركيين بعد ذلك بمصادرة كل شرائط التسجيل الاصلية التي حملت وقائع الجلسة. \r\n \r\n يقول أحد الصحافيين: «آخر مرة حدث لي أمر مثل ذلك كان عندما أخذت الحكومة العراقية شرائطي في البصرة أثناء حرب الخليج 1991». \r\n \r\n ولكن الأمر لا يقتصر على تلك المعاملة الفجة لبداية مسرحية محاكمة صدام التي لم يتمتع خلالها، بالطبع، صدام بوجود محام يدافع عنه. فإذا حدث وأن نال صدام محاكمة عادلة في أي وقت من المستقبل، فإن أمر حذف الصوت من شرائط تسجيل المحاكمة الذي حدث سيكون سابقة مهمة. إن ما حدث يشير الى امكانية ان يتعرض صدام الآن الى حجب صوته ثانية إذا حدث، على سبيل المثال، وان خرج عن النص وتحدث إلى المحكمة عن علاقته الوثيقة بالولاياتالمتحدة، بدلاً من التحدث عن علاقته غير الموجودة أساساً مع تنظيم القاعدة. \r\n \r\n إلا أن الاحتلال الأميركي يتواصل بأشكال كثيرة. ووجود 146 ألف جندي أميركي في العراق هو دليل أكثر من واضح على استمرار هذا الاحتلال، وكذلك وجود تلك الدبابات التي تحرس أسوار السفارة الاميركية في بغداد ووجود تلك الآليات المدرعة المتناثرة في جميع انحاء بغداد. إن الحكومة الجديدة ذات السياسة لا تستطيع أن تأمر تلك القوات بمغادرة العراق. \r\n \r\n والعقود التي تركها بريمر لشركات أميركية لإعادة إعمار العراق تضمن مواصلة تلك الشركة نهب الثروات العراقية، كما جاء في وصف نعومي كلاين الدقيق للوضع في مقالها بعنوان «سرقة بمليارات الدولارات». ونجح بريمر في وضع مجموعة من القوانين لا يُسمح للحكومة الجديدة ذات السيادة بتغييرها. \r\n \r\n أحد أسوأ تلك القوانين هو اعادة تطبيق قانون 1984 الذي كان قد سنه صدام لمنع جميع أنواع الاحزاب. إن هذا القانون الاحمق المراد، يهدف به تكميم أفواه ما يطلق عليه اتحاد نقابات العمال العراقية، غير ان تلك النقابات تعد من ضمن الجماعات العلمانية القليلة في العراق التي تعارض التشدد الديني والاصولية الاسلامية، فمن شأن وجود حركة نقابية قوية أن يوفر قاعدة حيوية من القوة الديمقراطية والسياسية في عراق جديد. لكن لا، فبريمر يفضل أن يحمي المصالح التجارية الأكبر. \r\n \r\n وفي تلك الاثناء تتنامى قوة المرتزقة الموجودين في العراق. فقُطّاع طرق بلاك ووتر يحملون بنادقهم ويدفعون بها العراقيين الذين يقابلونهم في طريقهم. وقد حدث أن خرج صحافيون أكراد مرتين من المؤتمرات الصحافية التي كان يعقدها بريمر بسبب سوء المعاملة التي تلقوها على أيدي هؤلاء الرجال. \r\n \r\n وتعج بغداد الآن بأشخاص مجهولين قدموا من الغرب مدججين بالأسلحة والعتاد العسكري، يصيحون، ويسيئون معاملة العراقيين في الشوارع، ويأخذون في شرب المسكرات بإفراط في فنادق المدينة. لقد تحول هؤلاء في نظر المواطن العراقي العادي الى صورة توضح مساويء الغرب. \r\n \r\n نحن نميل الى اطلاق اسم «مقاولين» على هؤلاء، غير أن هناك زيادة تثير الازعاج في التقارير التي تشير إلى أن هؤلاء المرتزقة آخذون في اطلاق النار على الابرياء من العراقيين من دون ان يتعرضوا الى أي عقوبة. لقد وضعت القيادة العسكرية الأميركية والمسئولون الدبلوماسيون نسبة لوجود هؤلاء المرتزقة في العراق بحيث يكون أمام كل 80 مواطناً عراقياً 20 من هؤلاء المرتزقة الغربيين. \r\n \r\n وحتى إذا نسي الرئيس جورج بوش الامر، فإن فضائح سجن ابو غريب وما حدث هناك من اعمال قذرة وعُري واهانة قام بها جنود أميركيون ستستغرق جيلاً من الزمن قبل ان تنساها ذاكرة هذا البلد. وقد ادعت جماعة يسارية في بغداد مؤخراً ان العديد من النساء اللواتي تم اغتصابهن في السجن من قبل رجال شرطة عراقيين على مرأى ومسمع من الاميركيين تعرضن للقتل على يد افراد عوائلهن «محواً للفضيحة». هناك مناطق واسعة الآن من العراق خارج نطاق السيطرة الحكومية تماماً. \r\n \r\n فالفلوجة تمثل بالفعل الان جمهورية شعبية، في حين يجري تطبيق احكام الاعدام من دون محاكمة حتى في بغداد. وقد قام ما يطلق عليه جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر باعدام شاب يبلغ من العمر 20 عاماً علناً في احدى ضواحي مدينة الصدر في ضواحي بغداد الشهر الماضي بسبب اتهامه «بالتواطؤ» مع الاميركيين. \r\n \r\n وبالطبع، قليلون هم الصحافيون الذين يتجرأون على السفر خارج بغداد في ظل تلك الاجراءات. وهو الامر الذي، بالطبع، يُسعد الجيش الاميركي وقد اعرب مراسل اميركي مؤخراً عن شكواه بالقول: «لقد قتلوا كل هؤلاء الابرياء الذين كانوا يحضرون حفل زفاف بالقرب من الحدود السورية. ثم جاء بريجادير جنرال مارك كيميت ليقول ان القتلى كانوا ارهابيين، وهو يعلم اننا لا نستطيع الذهاب الى هناك لنثبت انه خاطئ». \r\n \r\n وعلينا ان نتذكر ان اياد علاوي، رئيس الوزراء العراقي الجديد، كان عميلاً ل «سي آي ايه» وال «ام آي سي» واحد قادة البعث السابقين. وفي حقيقة الامر بدا عليه التفاخر عندما اخبر الصحافيين بأنه كان يتلقى اموالاً من 14 جهازاً استخبارياً عندما كان في المنفى. وعلى الرغم من الحرية التي يعتقد علاوي ان العراق يتمتع بها الان، فإنه لن يستطيع أن ينقلب ضد من يحميه من الاميركيين ولا ضد جون نيغروبونتي، السفير الاميركي الجديد المميز لدى العراق ذي الشهرة الهندوراسية. \r\n \r\n ومن المفارقة ان الامل الحقيقي الوحيد امام الحكومة الجديدة هو ان تفعل ما تريده غالبية شعبها، وهو ان تخبر الاميركيين بأن عليهم المغادرة. وبالطبع، فإن هذا امر لا يمكن لعلاوي ان يقوم به. فحكومته «ذات السيادة» تحتاج لتلك القوات الاميركية لتحميها من هذا الشعب الذي لا يريد القوات الاميركية في العراق. ولذا فإننا بينما ننتظر بلهفة تلك الانتخابات التي ستعقد في يناير 2005، فإنه يجري من وقت لآخر كشف اللثام امام اعيننا لبث الرعب فينا عن طريق تمكيننا من رؤية لمحات عما ستكون عليه الاوضاع في المستقبل. \r\n \r\n يعتقد كثير من العراقيين انه سيكون هنك «دكتاتور جديد» او «رجل قوى ديمقراطي العقلية» على حد تعبير دانييل بايبس، احد المحافظين الجدد في أميركا، يستطيع احلال الامن الذي عجزنا عن منحه للعراقيين. لأنه بعد الانتخابات اذا اجريت اصلاً تلكالانتخابات سوف ندعي ونحن نشعر بالصدق انه لم يعد ممكناً ان يتم تحميلنا مسئولية وقوع اي خطأ في العراق. فنحن قد حررنا العراقيين من صدام، ومنحناهم الديمقراطية ثم انظر الفوضى التي تسببوا فيها من جراء كل ذلك! \r\n \r\n