أطلق الكرملين سياسة \"الشيشنة\" بغرض إنهاء الحلقة المفرغة التي انتهت إليها الحرب الشيشانية الثانية، حيث يتوالى مسلسل الهجمات على طريقة حرب العصابات حلقة بعد أخرى، لتعقب كل منها عمليات عقابية رهيبة ينفذها جنود القوات الروسية. وقد مال الكرملين إلى اختيار هذه السياسة الجديدة لأن الحكومة الروسية أدركت أن كسب قلوب وعقول الشعب الرازح تحت الاحتلال هو أمرٌ يشكل مهمة تتصف بالإلحاح وتفرض اتخاذ خطوات عاجلة. على أنه بالإضافة إلى ذلك يبدو أن من المرجح أن مسؤولي الكرملين، الذين يتولون مهمة إدارة الأزمة الشيشانية، كانوا مدفوعين برغبتهم في وضع شخص ما في مكانهم ليتولى عنهم المسؤولية ويزيح عبأها عنهم. وفي شهر سبتمبر الماضي، نظّم الكرملين انتخابات رئاسية في الشيشان. وخلافاً للفلسطينيين الذين يشكل استقلالهم عن إسرائيل نقطة بداية في جملة مطالبهم، لم يقف الشعب الشيشاني وكبار شخصيات وزعامات الشتات الشيشاني الكبير في موسكو موقفَ الكراهية لفكرة وجود حكومة مدعومة من موسكو وتتمتع بدرجة معقولة من الاستقلالية. وكان هناك العديد من المتنافسين الجادين، وجميعهم ذوو ارتباطات سياسية أو علاقات عمل قوية في روسيا، والذين كانت لديهم الرغبة والاستعداد للمشاركة في الانتخابات. ووفقاً لأحد استطلاعات الرأي المستقلة، كانت للبعض شعبية تفوق بكثير شعبية قاديروف الذي عيّنته موسكو قبل الانتخابات ليكون مندوبها في الشيشان. وقد بدا أن هناك بالفعل إمكانية لبناء ائتلاف حكومي موال لموسكو ولبناء الثقة بين أبناء الشعب الشيشاني. وكان من الممكن أن تكون لعملية \"الشيشنة\" فرصة للنجاح لو أنها كانت مدعومة بسياسة ذات توجهات إنسانية- أي تقليص حجم الفظائع التي يرتكبها جنود القوات الروسية، وتوفير الرعاية للاجئين الشيشان في الأراضي الروسية. لكن إدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا تتخذ من الرقة واللطف السياسي منهجاً لها. فأسلوب حكومة بوتين، التي توصف بأنها تعتمد على \"خط عمودي من السلطة\"، هو أسلوب يتمحور حول السيطرة والإخضاع. ولذلك شرع الكرملين في مساعدة قاديروف على التخلص من كل المعارضة التي تشكل خطراً عليه، وفي مساعدته على ضمان نجاحه في الانتخابات. ولذلك بدا نظام الحكم، الذي يتمحور حول وجود رجل واحد في موقع المسؤولية، أكثر ملاءمة في نظر الكرملين الذي يحكمه بوتين، كما بدا أن ذلك النظام شبيه بالطريقة التي تطور بها النظام السياسي الروسي على مدى السنوات الأربع الماضية. على أنه في حين قام نظام حكم الرجل الواحد في موسكو بتحويل روسيا إلى دولة من النوع الفاشستي الرخو، كان نظام حكم الرجل الواحد في الشيشان يعني الديكتاتورية. ذلك أن قاديروف طالب بالحصول على ما هو أكثر من السلطة والصلاحيات، فلبى الكرميلن له هذا الطلب ومنحه ما أراد، وإن يكن على مضض في أية حال. وقد أسس قاديروف نظام حكم انتهج العنف والقسوة وكان مكروهاً مرهوب الجانب لدى الكثيرين في الشيشان. وقام قاديروف بتطهير دائرته الداخلية فتخلص من منافسيه المحتملين ووضع نجله في موقع المسؤولية عن قوة مسلحة يُطلق عليها اسم الشرطة الشيشانية، ليعزز قاديروف بذلك الطبيعة العشائرية للحكومة الشيشانية. وقام جيش قاديروف، الذي يتصف أفراده بالعنف وانعدام الانضباط، بمضايقة واختطاف وتعذيب مواطنيهم الشيشانيين الذين تحوم حولهم شبهة التعاون مع المقاتلين الشيشان أو الذين يُعتبرون غير موالين للنظام الحاكم. وعلى رغم أن قاديروف شن الحرب على المقاتلين الشيشان، كانت القوات الفيدرالية الروسية تعتريها شكوك عميقة في ولاء رجاله المسلحين، وهي شكوك لم تتولد هكذا دون سبب، إذ كان لقاديروف الكثير من الأعداء؛ كما كانت هناك محاولات كثيرة لاغتياله. ومع رحيل قاديروف الآن، تواجه روسيا عواقب منهجها المفرط في بساطته (وهي مشكلة ليست مختلفة عن تلك التي تواجه قادة الولاياتالمتحدة في سياق سعيهم إلى التغلب على المشكلات في العراق). فالتخلي عن استراتيجية \"الشيشنة\" والعودة إلى سياسة الاعتماد على زعيم تقوم موسكو بتعيينه، أمر من شأنه أن يكون معناه الاعتراف بإخفاق السياسة التي دافع عنها بوتين نفسه بكل ضراوة ضد أية انتقادات. فروسيا إذاً لا يمكنها الآن أن تلجأ إلى المحادثات مع المقاتلين الشيشان لأن بوتين كان قد استبعد خطوة كهذه مراراً وتكراراً. ولأن قاديروف لم يتحمل وجود أحد ذي قوة أو طموح حوله، لا يوجد الآن أمام الكرملين في تسلسل القيادة بديل عنه لتنصيبه في موقع الحكم. والأكثر من ذلك أن أي شخص يخلف قاديروف سيضطر إلى مواجهة الواقع الذي مفاده أن بنية سلطة قاديروف استندت عموماً إلى عشيرته وإلى الرجال المسلحين الذين يقودهم ابنه. على مدى سنوات العقد الماضي، تكبدت روسيا في النزاع الشيشاني آلافاً كثيرة من الأرواح، وكلفها ذلك نزع صفة الإنسانية عن جيشها وزيادة الكراهية الإثنية إضافة إلى تكبدها نفقات لا تحصى من الموازنة. وأدت هجمات الإرهابيين الشيشان في السنوات الأخيرة إلى قتل المئات من البشر في موسكو والمدن الروسية الأخرى. وسيمضي بعض الوقت قبل أن يستقر الكرملين على سياسة جديدة ويجد الأشخاص المناسبين لتنفيذها. لكن هناك أملاً ضئيلاً في أن المحاولة الجديدة ستكون أكثر لطفاً وحساسية من المحاولات المبذولة في السنوات السابقة. ماشا ليبمان صحفية مختصة بالشؤون الروسية ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست\"