عمدت بعض الدوائر الصحفية والسياسية المطلعة في أوروبا وأميركا الشمالية إلى توصيف نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة كصدمة أو فاتحة لأزمة جديدة، وذهب بعضها إلى الزعم بأنها أقرب إلى التعبير عن حالة «هستيريا»، وبدا من بعض التعليقات وكأن أوروبا قد انتهت من خلال النجاح اللافت لليمين في هذه الانتخابات والذي يحاكي صعود الفاشية في الثلاثينيات. أما أنا فأرى أن كل ما قيل لا يعدو كونه مجرّد هُراء. وكل ما فعلته عملية التصويت هذه لا يمثل أكثر من انضمام 150 عضواً جديداً معارضاً لبقاء الاتحاد الأوروبي كوحدة سياسية واقتصادية إلى مجموع مقاعد البرلمان البالغ عددها 751 مقعداً، مع العلم أن هذا البرلمان لا يمتلك إلا تأثيراً محدوداً جداً على الوظائف الحقيقية للسلطة التنفيذية للاتحاد الأوروبي وعلى رأسها المفوضية الأوروبية التي يتم تعيين أعضائها من دون انتخاب، ومجلس الاتحاد الأوروبي، وهو الجسم الحاكم الذي يتألف من وزراء يتم اختيارهم من حكومات الدول المشاركة عن طريق الرئاسة الدورية للاتحاد. ولا يمكن مقارنة قوة السلطة التي يتمتع بها البرلمان الأوروبي بتلك التي تتمتع بها البرلمانات الوطنية للدول الأوروبية الأعضاء في الاتحاد. بل أنه فيما تحمل بعض الأحزاب الوطنية الأوروبية، مثل «حركة الفجر الذهبي» في اليونان، و«حزب جوبيك» في المجر، و«حزب الشعب» في الدانمارك، و«حزب الحرية» في هولندا، وحزب «الرابطة الشمالية» في إيطاليا.. أفكاراً متطرفة مبنية على العنصرية ومعاداة السامية ووصف الدين الإسلامي وأتباعه بأعداء الحضارة الأوروبية، فإن أعدادهم قليلة جداً وليس لهم إلا قِلّة قليلة من الأتباع. وكان حزب «الجبهة الوطنية» الفرنسي قد اكتسب صيته السيئ من خلال الممارسات المعادية للمهاجرين من جان بمؤسسه «جان ماري لوبين»، إلا أن الحزب تخلّى عن تلك الممارسات بعد أن تزعمته ابنة لوبين، «مارين لوبين» التي سجلت نصراً انتخابياً كبيراً في فرنسا خلال حكم الاشتراكيين المتحالفين مع الحزب اليميني المركزي أيام حكم الرئيس السابق نيكولا ساركوزي احتلت أخباره واجهات الصحف العالمية. ولم تكن لتتمكن من الاحتفاظ بأتباعها ومؤيديها الجدد لو سارت على منهج أبيها. ومثل موضوع السيادة الوطنية المشهد الأكثر بروزاً في انتخابات البرلمان الأوروبي. ويمكن القول إنها كانت انتخابات مضادة للاتحاد، تماماً مثلما حدث عندما عمدت فرنساوهولندا إلى رفض الدستور الأوروبي عام 2005 والذي تم وضعه تحت إشراف الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار دستان. وكان الناخبون الفرنسيون والهولنديون في ذلك الوقت رافضين لفكرة الخضوع لحكومة أوروبية موحدة. وكان المبعث الأساسي لامتعاض الناخبين الأوروبيين واستيائهم يتعلق بالأزمة الاقتصادية التي عصفت بدول جنوب أوروبا، وبالإجراءات المالية الصارمة التي تبنّاها البنك المركزي الأوروبي تحت ضغط قوي من ألمانيا والمفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي، خاصة أن الشروط التي وضعت لإنقاذ البلدان من أجل تجاوز مديونياتها المحلية لم تكن بعملة اليورو، وأيضاً بسبب التمويل المثير للشكوك للمرحلة الأولى من الإصلاحات المالية. ويمكن القول أيضاً إن التصويت كان ضد عملة اليورو التي تم اعتمادها في غياب ميزانية عامة لدول الاتحاد وغياب الشروط والسياسات المالية والضريبية الواضحة. وكان التصويت أيضاً ضد السياسة المتبعة لمنح «تأشيرة شنجن» التي تسمح بالمرور الحر لأي إنسان عبر حدود 19 دولة موقعة على الاتفاقية باستخدام مستندات سارية المفعول في دول الاتحاد الأوروبي. وأيضاً ضد سياسات الهجرة التي ذهبت ضحيتها العديد من دول البحر الأبيض المتوسط. وكانت هذه الانتخابات كذلك تعبيراً ضد البيروقراطية وحكومة التكنوقراط في بروكسل، ومن أجل الدعوة للسماح للدول الأعضاء بالتكفل بحل بعض المسائل الصغيرة بذاتها. كما أنها تأتي للإعراب عن الاحتجاج ضد الاتفاقيات الدولية في قطاع التجارة وبقية القضايا التنظيمية العالمية التي أُبرمت من دون عرضها للنقاش على الرأي العام. ومنها مثلا «المعاهدة التجارية لدول ما بين الأطلسي» والتي عقدها الاتحاد الأوروبي مع الولاياتالمتحدة من دون الكشف عن تفاصيلها للرأي العام بل فقط لأعضاء «اللوبيات» المستفيدة منها. على أن المشكلة الأساسية التي بقيت من دون حل حتى الآن، تتعلق بالمصير الذي ستؤول إليه هذه المؤسسة مستقبلا. فلقد كانت سياسية الطابع في البداية نظراً لأن الاندماج الصناعي لألمانياوفرنسا يجعل من قيام حرب جديدة بينهما أمراً مستحيلا. وأدى نفس هذا المنطق في الإصلاح الاقتصادي إلى تغير سياسي تبلور في عقد العديد من الاتفاقيات وصولا للمرحلة الصعبة الراهنة وحيث أصبحت الإصلاحات الاقتصادية تهدد بإنهاء الاتحاد الأوروبي برمته. ويبدو لي كمتابع، أن الوقت قد حان للعودة إلى نموذج التحالف الدولي بين الدول السيادية الأوروبية والمصحوب بمعاهدات صارمة للتعاون وتبادل الخبرات والدعم المتبادل. وكانت الولاياتالمتحدة تمثل النموذج الأساسي لأوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية من أجل إقامة الدولة الأوروبية الموحدة. لكن هذا النموذج الأصلي أصبح أشبه ما يكون بتأسيس دولة فاشلة تحطمت بفعل الطموح الزائد والرغبة في التوسع وتفكيك المؤسسات الوطنية الحاكمة. ولابد من التذكير بأن أوروبا تمثل حضارة بأكثر مما تمثل دولة، وأن هذه الحضارة تحتاج إلى أن تُصان. نوع المقال: سياسة دولية الولاياتالمتحدةالامريكية الاتحاد الاوربى-شمال اسيا