رغم أن واشنطن وأوروبا على قناعة تامة بأن روسيا تقف وراء الاستفتاءات التي أجريت في مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك في شرق أوكرانيا، إلا أنه يصعب عليهما إثبات ذلك. وقد جاءت هذه الاستفتاءات بمثابة ضربة قوية للسلطة الجديدة في كييف، وللغرب المؤيد لهذه السلطة، ويعتبرها البعض أقوى من ضربة استعادة شبه جزيرة القرم لروسيا، نظراً لأنها تستهدف تقسيم أوكرانيا إلى قسمين، قسم في الغرب صغير وفقير لا يزيد تعداد سكانه عن 12% من سكان أوكرانيا، وتتولاه السلطة الانقلابية في كييف، والقسم الأكبر في الشرق الذي يحتوى على أكثر من 80% من اقتصاد وثروات أوكرانيا، ويسكنه أكثر من 70% من الشعب الأوكراني بمن فيهم نحو 8% من الروس. وتمتد فصول المخطط الروسي، في نظر الغرب، لتقسيم الشرق إلى أقاليم مستقلة عن بعضها، يعلن كل منها استقلاله عن أوكرانيا من خلال استفتاءات شعبية، ثم تتقدم هذه الأقاليم بطلبات انضمام لروسيا، وها هي البداية في مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك، اللتين تتمتعان وحدهما بما يقارب 20% من ثروات أوكرانيا الطبيعية واقتصادها، واللتين أجرتا استفتاءين شارك فيهما نحو 90% من سكان الإقليمين، وجاءت نتائجهما مبهرة للجميع في الداخل والخارج. ففي دونيتسك صوت نحو 90% من الناخبين لاستقلال الإقليم عن أوكرانيا تحت اسم «جمهورية دونيتسك الشعبية»، بينما في إقليم لوغانسك صوت للاستقلال أكثر من 96% تحت اسم «جمهورية لوغانسك الشعبية»، وقد شرع القائمون على السلطة في الإقليمين المستقلين، في تشكيل حكومتين ومؤسسات سلطة مستقلة تماماً عن العاصمة كييف. موسكو التي رحبت بنتائج الاستفتاءين، كانت تحاول قبل إجرائهما أن تبدو وكأنها لا دخل لها فيهما، وقد أدلى الرئيس بوتين بتصريح قبل إجراء الاستفتاءين بيومين، يرجو من الإقليمين تأجيلهما، وهو الرجاء الذي لم يستجيبا له لأنه جاء في وقت متأخر تماماً، ما جعل البعض يتشكك في أن بوتين طلب التأجيل وهو يعلم أن طلبه لن يستجاب له، ولكن فقط حتى يبدو أمام الأوروبيين والأمريكيين وكأنه ضد التقسيم وليس له يد فيه. وكأنها تمثيلية متفق عليها بين موسكو وقادة الإقليمين، ومن ضمنها ما أعلنه رئيس الحكومة المؤقتة في دونيتسك دينيس بوشلين، من أن «جمهورية دونيتسك الشعبية» لن تطلب من القوات الروسية التدخل، مضيفاً أن سكان الجمهورية سيدافعون عن أنفسهم بأنفسهم، وأن إنشاء جيش لمواجهة القوات الأوكرانية سيكون الخطوة التالية من قبل السلطات المحلية. وهذا كلام يفتقر للمصداقية، لأن الوقت لا يسمح بتشكيل جيش جديد والقوات الأوكرانية على الحدود، الأمر الذي يدعم ادعاءات واشنطن وحلف الناتو بأن هناك قوات روسية متخفية دخلت الأقاليم الشرقية مبكراً، وهي التي تواجه القوات الأوكرانية، وإلا من أين للمقاومة الشعبية في هذه الأقاليم بالأسلحة التي أسقطوا بها مروحيات الجيش الأوكراني؟ ردود الفعل على الاستفتاءين جاءت متباينة، حيث هناك ترحيب في موسكو مع تحفظ واضح في التصريحات، بهدف إبعاد الشبهات وامتصاص غضب الأوروبيين والأمريكيين، الذين بدأت تنتابهم الشكوك القوية حول نوايا الرئيس الروسي بوتين في ابتلاع الكعكة الأوكرانية في الشرق الغني، وترك الخبز الجاف لهم في الغرب الفقير. وهناك صمت مشوب بالغضب الحاد في أوروبا وواشنطن، وتخبط وهستيريا واضحة لدى السلطات الأوكرانية في كييف. ويبدو من ردود الفعل لأغلب الذين في السلطة في كييف والذين يتمنون الوصول لها، أنهم لا يعلمون ماذا يفعلون للمحافظة على وحدة البلاد، وقد جاءت التصريحات تعكس ذلك، حيث قال زعيم حزب «أودار» فيتالي كليتشكو الداعم الأكبر للسلطة في كييف، «إن ما يسمى باستفتاء دونيتسك هو مهزلة تفوق استفتاء القرم». ووصفت رئيسة الحكومة السابقة يوليا تيموشينكو، ما حدث بقولها «إنه احتيال من جانب موسكو وإرهابيين يساندون خطط الكرملين الخاصة على الأراضي الأوكرانية، هدفه إفشال الانتخابات الرئاسية»، وأضافت «إن هدف هذا الاستفتاء واضح: تمزيق بلادنا إلى قطع وتفريقنا، وزعزعة الاستقرار في أوكرانيا، وعلينا أن نقف في وجه هذه المحاولات بحزم». أيا كان الأمر، فإن الاستفتاءات تمت بهدوء وأمن تام، والاستقلال أعلن، وكييف التي لم تستطع قواتها تحقيق أهدافها في الشرق الأوكراني، لا تملك شيئاً تفعله، والأوروبيون والأمريكيون أيضاً في حيرة من أمرهم، بين اتهام موسكو والصدام معها أو الرضوخ للأمر الواقع في انتظار الخطوة القادمة، عندما تعلن موسكو موافقتها على طلب إقليمي لوغانسك ودونيتسك بالانضمام إلى روسيا. نوع المقال: روسيا سياسة دولية