أعادت روسيا تماسك اقتصادها ومجتمعها، وبعثت روحها القومية التي وصلت للحضيض بعد فقدانها لإمبراطوريتها عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي استمر بالتمدد بغطاء "أممي" أخفى نزعة قومية توسعية، تعيد إحياءها حالياً "القيصرية البوتينية" في مواجهة دول شرق أوروبا والقوقاز المتجهة غربا، بعد معاناتها الطويلة في "سجن الشعوب" الروسي التي لم تمح من مخيلة شعوبها بعد، بحثاً عن فرصتها للمزيد من الديمقراطية والتقدم والتنمية والأمن خارج الهيمنة الروسية. ولكن إلى أي مدى نهضت روسيا؟ بالتأكيد ليس إلى حد عودتها دولة عظمى، كما أثناء الحرب الباردة، حسب العديد من المراقبين. وقد ساعد على النهوض مجدداً فتح أسواقها للاستثمارات الخارجية، وارتفاع الأسعار العالمية للغاز والنفط، التي أعطت روسيا دخلاً مكنها من تسديد معظم ديونها وتوفير فائض لتحديث صناعاتها وخاصة العسكرية. الصراع التناحري السابق بين نظام رأسمالي وآخر اشتراكي ما عاد وارداً. وإذا كانت أوروبا تعتمد على روسيا بتزويدها بقسم من احتياجاتها للغاز والنفط، فإن روسيا بحاجة ماسة للاستثمارات الغربية التي لا يمكن أن ترحل لأماكن أكثر استقراراً إذا استمر تدخلها في محيطها، كما كان يحدث في العهد البريجنيفي خاصة، عندما أعلن أن سيادة دول المعسكر الشرقي "محدودة"، ويحق لروسيا أن تتدخل لتمنع أي تغيير يخرجها عن السيطرة كما حدث في ثورة المجر عام 1956 والانتفاضة البولونية 67 والثورة التشيكية 68 التي سميت ربيع براغ، وثورة تضامن البولونية 81، من ضمن إرث تاريخي طويل في قمع ثورات أوروبا الغربية نفسها. لكن روسيا قبلت، في عهد "القيصر" بوتين الممتد منذ 14 عاماً، بتحفظ وامتعاض توسع حلف الناتو في القوقاز وشرق أوروبا ليضم معظم دول حلف وارسو المنهار، ما ترك روسيا خارج الحلف شبه معزولة. لكنها اعترضت بقوة على مشروع ضم جورجياوأوكرانيا. فتدخلت عسكريا في جورجيا عام 2008، وهي الآن أمام احتمالات اضطرارها لإرسال قواتها لإعادة سيطرتها على أوكرانيا بعد أن أسقطت الانتفاضة الشعبية الحكومة الأوكرانية الموالية لها. قد تتطور المواجهة بين روسيا والغرب مستقبلاً لتعود الحرب الباردة من جديد، لكن الدلائل لا تشير إلى إمكانية استعادة النفوذ الروسي كما كان في العهد السوفييتي، فهناك حدود للقدرة الروسية. انتفاضة أوكرانيا أثبتت أن الخروج من سجن الشعوب الروسي مسألة معقدة تتم على مراحل، فقد استقلت أوكرانيا عن روسيا شكلاً في العام 1991، إلا أنها لا تزال بعيدة عن كسب استقلالها التام لتشابك العوامل الاقتصادية والسياسية والاثنية والإستراتيجية، التي احتاجت لانتفاضة أخرى في 2004 -الثورة البرتقالية- لتليها الانتفاضة الراهنة من أجل ديمقراطية أوسع وللخروج من الهيمنة الروسية والقضاء على فساد الحكومات المتعاقبة المنتفعة من بيع القطاع العام ومن عملية التنمية الواسعة. روسيا بوتين لن تترك أوكرانيا تذهب في حالها، وهي الآن بين خيار التدخل العسكري المباشر وبين الاعتماد على أنصارها من القوميين الروس -حوالي 20% من سكانها 46 مليون- الذين بدأوا التحرك المسلح في القرم أو الوسيلتين في نفس الوقت. ولا يستبعد تطور الصراع أن يؤدي لانقسام اوكرانيا. يرى محللون أن روسيا لا تبدي حرصا على وحدتها لمصالحها الكبيرة فيها الاقتصادية والعسكرية خاصة. وهي إن ُخيرت فقد تفضل خسارة نصف أوكرانيا بدل خسارتها كاملة إن فشلت في إعادتها للحظيرة الروسية. لكن من المؤكد أنها لن تمكن النظام الجديد الذي أعقب الانتفاضة من الاستقرار. ففي سوريا نجحت في الحفاظ على النظام الاستبدادي السوري حتى الآن، إلا أنها خسرت سمعتها العالمية، حيث أدينت كدولة تدعم أبشع الأنظمة المتوحشة في عالم اليوم. ويرون أنها لا تستطيع تقديم تنازلات حقيقية في سوريا مقابل تسويغ استعادة هيمنتها على أوكرانيا. فكما إن أوكرانيا أهم لديها من سوريا، فإن أوكرانيا نفسها أكثر أهمية للغرب أيضا من سوريا. لذلك ستستمر في محاولة عدم الخسارة النهائية في كل منهما. غير أن الزلزال الأوكراني في الحديقة الخلفية لروسيا، حسب هؤلاء المحللين، لا يؤثر في حساب الربح أو الخسارة، وفقط، ولكنه أيضا خطر يهدد نظام بوتين نفسه، إذ يهدد باندلاع الانتفاضة الروسية من جديد ضد "القيصر" بعد أن نجح في قمعها عندما هب مئات آلاف الروس للاحتجاج على توليه الرئاسة للمرة الثالثة في العام 2012. إذ إن إفلات دولة مهمة مثل أوكرانيا من القفص الروسي واتجاهها نحو الديمقراطية والازدهار الاقتصادي سيحرض بشكل كبير الشعب الروسي على الانتفاض في وجه حكومته المستبدة الراهنة. فإذا حدث ذلك يصبح على "القيصر" أن يواجه ثلاث انتفاضات في سورياوأوكرانياوروسيا!! فهل سيتمكن من إخمادها جميعاً؟ الكثيرون يشككون في ذلك.