يخرج بعد منتصف الليل بسيارته كعادته، يحب المدينة وهي هادئة، يمر علي بائعة الشاي الجالسة علي هامش منطقته القديمة، ترحب به بشدة، يجلس علي أحد الأحجار بجوارها فتعد له كوب الشاي الساخن، لايشبه زبائنها، يسألها عن ابنتها التي تزوجت حديثاً وعن ابنها الذي يدرس في أحد المعاهد، مستمع جيد يعشق الإنصات وله ابتسامة "مطمئنة" وملامح واضحة ونظرة لايمكن نسيانها! يدفع لها بزيادة كعادته ويسلم وينصرف، تنظر له وهو يغادر وتتمني أن يبقي أكثر فوجوده يضفي علي المكان سكينة وهدوء، ورغم أنه قليل الكلام إلا أن كلامه عن الرضا والصبر واليقين والأحلام التي ستتحقق وقطار السعادة الذي سيمر مريح للغاية! يكمل مسيرته ويقف بالسيارة بجوار الحديقة التي كثيرا ما لعب فيها وهو صغير، يوم أن كانت النفوس بريئة والأحلام تتسع للكون بأكمله، يحضر معه علبته "الشهيرة" ويجلس بمفرده علي أحد الكراسي، معروف جيدا لدي قطط الحديقة، فما أن يحضر حتي تحيط به وتتمسح في قدمه، يخرج الطعام الذي أحضره لهم ويوزعه بالعدل كعادته، يتركهم مع وجبتهم ويتأمل المكان الذي يحبه، وكأنه يسمع صوت ضحكاته الصغيرة الخارجة من القلب، دراجته التي كثيراً ماطاف بها في المكان، حتي بدايات مراهقته ومشاعره البريئة الصادقة وشاربه الصغير الذي كان ينمو فوق شفتيه! أكلت القطط وشبعت وجلست بجواره بهدوء وهي تتأمله! يغادر المكان تاركاً ذكرياته، ويبدأ رحلة العودة للبيت، ينظر في مرآة السيارة فيري الشعيرات البيضاء الزاحفة إلي لحيته، يبتسم ويحمد الله، يقف عند بائع الجرائد الذي يعرفه جيدا، وعندما يعود لبيته يفتح الباب بهدوء لكي لا يزعج أي نائم، يدخل إلي حجرة الأطفال، بدون غطاء كعادتهم، يغطيهم ويقبل أيديهم الصغيرة بحنانه المعهود، يعد كوب من الشاي ثم يذهب إلي الصالون ليخرج بضاعته الثمينة التي أحضرها من عند بائع الجرائد ... مجلة "ميكي"! ويجلس بمفرده ليقرأها بشغف شديد كما اعتاد دائماً، كما اعتاد دائما!