لم يكن أكثر ما سمعته من ردود فعل أجنبية حيال التسريبات عن وكالة الأمن القومي يدور فقط حول مدى تجسس واشنطن على حلفائها، ولكن الأسوأ من ذلك هو مدى تكبر الجميع في أميركا، وكذلك معظم الصحف وقنوات التلفزيون تجاه الأجانب. وكان الرد الأميركي بالإجماع على المنتقدين هو أن «الجميع يفعل ذلك» أو «لو كان بمقدورك فعل ذلك لفعلته أنت أيضاً» أو الأحسن من كل ذلك «انظر يا صديقي، هذه هي الولاياتالمتحدة، وإذا لم تكن تروق لك..."! كما عاد الاتجاه القديم لنبرة «نحن رقم 1، حاول صنع شيء من ذلك»، وقد يعتقد المرء أن مسلسل الكوارث الذي لحق مؤخراً بالسياسة الخارجية الأميركية قد يخرس أفواه بعض الأميركيين، ولكن ذلك لم يحدث، بل زادت النبرة التي قد تلمسها عند مطالعة الأخبار. فلنأخذ التجارة الخارجية على سبيل المثال، حيث تجري الآن مفاوضات برعاية أميركية لتغيير العلاقات التجارية الدولية عبر المحيط الأطلسي وعبر المحيط الهادئ، وذلك من خلال اتفاقيات جديدة من شأنها تقويض أو التخفيف على نحو فعال من العديد من التشريعات الوطنية القائمة لدول كثيرة، فيما يتعلق بالصحة والبيئة والتسعير والأمن الغذائي وغيرها من القضايا، وذلك من خلال الضغط عليها لتوقيع اتفاقيات دولية جديدة لها صفة المعاهدة، ومن شأنها أن تحل محل القانون المحلي في معظم الدول. وبالتأكيد، فإن المعاهدات تفعل ذلك بموجب الدستور الأميركي، ما يعني أن المعاناة لن يشعر بها الأجانب فقط بل الأميركيون أنفسهم في حالة تمرير هذا التشريع في الكونجرس الأميركي. (ولحسن الحظ، فإن هناك معارضة متزايدة حتى في الكونجرس، حيث تتحكم أموال الشركات -ولكن ربما لا يستمر ذلك طويلاً). كما تتعلق الاتفاقيات المقترحة بحفظ براءات الاختراع وغيرها من حقوق الملكية الفكرية (من أجل إطالة عمر براءة الاختراع الخاصة بالشركات وتنحية البيانات العلمية حتى لا يتم استخدامها بشكل تنافسي). وقد اقترح المفاوضون الأميركيون أن تكون الإجراءات الجراحية عرضة لبراءة الاختراع، حتى وإن كان ذلك يناقض القانون الأميركي الحالي وقوانين الدول الأخرى أيضاً. ومن وجهة نظر المستهلك، فإن البند الأكثر ضرراً المطروح على مائدة التفاوض سيسمح للشركات التجارية بمقاضاة الحكومات بسبب قوانين أو لوائح محلية تحد من أرباح هذه الشركات الفعلية أو المحتملة، والأكثر سوءاً هو أنها تفعل ذلك في محاكم خاصة خارج إطار النظم القانونية العادية للبلدان المتضررة، والتي تكون خالية من قواعد الإجراءات القانونية والإفصاح العلني السائد في النظم القضائية. وهذا البند وغيره من الأحكام الأخرى غير العادية التي تشملها هذه المقترحات من شأنه إعفاء الشركات التجارية ذات النفوذ من الخضوع لسيادة الحكومات في العديد من الأمور الاقتصادية والتجارية، وحتى العلمية والصحية. ولهذا السبب، فإن المفاوضات التي تتعلق بالشراكة التجارية والاستثمارية عبر الأطلسي ومعاهدات الشراكة عبر المحيط الهادئ تتم في سرية كبيرة، وعلى الجانب الأميركي، يمنع الاطلاع على الأمور الحاسمة حتى من قبل المشرعين وأعضاء الكونجرس -أي من فرع الحكومة الأميركية الذي يملك السيادة الدستورية في المسائل التجارية. ولمزيد من إخفاء التفاصيل وفحوى وعواقب العديد من هذه العناصر في الاتفاقيات المقترحة، يحاول المفاوضون الأميركيون الحصول على سلطة لواشنطن ذات «مسار سريع» بالنسبة للمعاهدات، أي إن المفاوضات لا تجري علانية، كما أن الاتفاق النهائي سيتم تقديمه للرئيس للتوقيع مع إجبار الكونجرس على التصويت ب«نعم أو لا» دون تعديل. (وقد تم الكشف عن هذه التفاصيل من خلال تسريبات ويكيليكس التي نشرتها الصحف كصحيفة «الغارديان» البريطانية). ويبدو أن الغطرسة في هذه الأيام قد أصبحت بمثابة نمط وطني. فعادة ما تقدم الولاياتالمتحدة على التعامل بحساسية مع الدول الأخرى في الأمور السياسية والاستخباراتية، وفوق كل ذلك، الأمور العسكرية. وفي هذا الأسبوع تم الكشف عما يبدو أنه صراع حاسم بين الولاياتالمتحدة وحكومة الرئيس حامد كرزاي حول العلاقات الأمنية المستقبلية، مما يلقي بالشكوك حول الاتفاقية الأمنية الثنائية التي تريد كل من واشنطن وكرزاي إبرامها. ويطالب الأميركيون بأنه في حالة بقاء القوات الأميركية في أفغانستان بعد الانسحاب المقرر لجميع قوات حلف شمال الأطلسي «الناتو» بنهاية عام 2014، فإن هذه القوات يجب أن تحظى بإعفاء من قبل الحكومة الأفغانية في الأمور التي تتعلق بالقانون الوطني. ويرفض كرزاي طلب أميركا في التمتع بالاستقلالية عند القيام بعمليات عسكرية، ولاسيما امتياز دخول المنازل الأفغانية قسراً في سياق العمليات العسكرية. ويعتبر المجلس التقليدي الكبير «اللويا جيرغا» هو أهم مجلس للتشاور السياسي الوطني في أفغانستان، ويضم زعماء القبائل وغيرهم من الشخصيات البارزة في البلاد. وقد دعي للانعقاد هذا الأسبوع. ومما لاشك فيه أن قراره سيسهم في تسوية القضية التي تتعلق بالسيادة الوطنية الأفغانية. وتتضمن مسودة الاتفاقية، التي يناقشها مجلس «اللويا جيرغا» موافقة الحكومة الأفغانية على أن يكون الجنود الأميركيون العاملون في أفغانستان خاضعين للقوانين الأميركية، وهو ما كان موضع خلاف بين الطرفين لفترة طويلة. وكانت الولاياتالمتحدة قد هددت بسحب جنودها من أفغانستان في حال عدم منحهم حصانة قانونية. ومن ناحية أخرى أكدت مستشارة الأمن القومي الأميركي، سوزان رايس، أن بلادها لن تقدم اعتذاراً لأفغانستان عن الأخطاء التي ارتكبتها على أراضيها. جاء هذا، بعدما أعلن المتحدث باسم الرئاسة الأفغانية أن كرزاي اتفق مع وزير الخارجية الأميركي جون كيري في اتصال هاتفي، على أن القوات الأميركية لن تقوم بأي حملات دهم إلا بصفة استثنائية لعدم المخاطرة بحياة جنودها. نوع المقال: سياسة دولية الولاياتالمتحدة الامريكية