ينظر إلى العصافير من بني جنسه وهي محلقة فى السماء على هيئة أسراب عديدة ، كل منها يمثل نصف نصف دائرة .. تمنى أن يفعل مثلها يوما .. أن يصبح حرا طليقا .. يطير ويحلق ، يعلو ويهبط ، يدور ويجول .. المهم أن يخرج من قفصه .. أنه يلعن ويمقت تلك القضبان التي تمنعه من اللحاق بهم فى الذهاب خماصا والعودة بطانا .. يجوع ويشبع .. يبحث عن رزقه .. لا أن يكون قابعا مستكينا فى انتظار الطعام والشراب من قبل صاحبه الذي يمتلكه . كان يشعر بجمال خلقته وحسن هيئته الذي أبدع الله فيه - سبحانه وتعالى – من ريش حريري وجسد يختلطه به الأخضر والأحمر فى تناسق وذوق رفيع المستوى لينم عن لوحة خلقها المولى أفضل من أي فنان على الإطلاق . ينتظر اليوم الذي ينطلق فيه إلى السماء ويتخلص من حياته الرتيبة المملة ، وعيناه تبصران باب القفص فى رجاء ممزوج بحسرة .. يدعو الله كل يوم أن يفك قيده ويطلق سراحه .. إلى أن جاء اليوم الموعود ، الذي يحلم به وينشده .. فقد نسى صابحه أن يحكم باب القفص .. ولم يصدق العصفور ما حدث .. أن أقل حركة منه كافية لخروجه .. وبكل قوة وحماس ولهفة دفع باب القفص بجناحيه حتى انفتح على مصراعيه ، فانطلق طائرا باحثا عن الحرية والسعادة الحقيقية ، أخذ يطير ويحلق فى دورات متلاحقة ، كانما يقوم بتنشيط جناحيه من الكسل والركود .. أبصر من خلال نافذة المنزل شجرة ضخمة ملتفة ومتشابكة الأغصان .. فاتجه إليها طائرا .. وقف على أحد أغصانها ونظر إلى قفصه والمنزل نظرة أخيرة فى وداع دافىء . كان الشوق والحنين قد بلغا منه كثيرا أثناء طيرانه وهو يشاهد هذا العالم الجديد ، الميادين والشوارع الفسيحة ، الحارات الضيقة والطرق المستقيمة والدائرية والكباري والأنفاق ، البشر بكل أشكالهم وأطوالهم وألوانهم وأحجامهم وأجناسهم وأعمارهم .. شعر بأنه فى حاجة إلى راحة قصيرة ثم يستكمل رحلته المثيرة .. استقر به المقام فوق شجرة ، وأبصر مجموعة من العصافير رمادية اللون فى عش صغير ، ينظرون إليه فى دهشة تخالطها الحسد ، تمنى أن يكون عضوا فى هذه الأسرة الصغيرة الهادئة البسيطة ، تمنى أن يختفي ريشه الملون الرائع الجمال وكذلك عيناه الرقيقة الحالمة .. وفجأة سمع طلق ناري وعلى أثره وقع أحد هذه العصافير صريعا على الفور ، فنظر إلى أسفل ليرى مصدر الصوت ، والذي لم يكون سوى صبي يمسك ببندقيته ويبتسم فى ظفر وتحدي وكأنما يعلن استهانته بهم ، وسرعان ما تحول الغضب والحزن الشديد القابع فى عين هذا العصفور إلى رعب وفزع هائل عندما رأى الصبي يصوب إليه البندقية هذه المرة فى استعداد وتحفز .. لاذ العصفور بالفرار بسرعة وصوت الطلقات من خلفه يزداد ويتصاعد . أي حظ عاثر جاء به إلى هذا العش البسيط ليتحول إلى مذبحة .. شعر بخيبة أمل ووخز لضميره .. تمنى أن يعود إلى قفصه حيث الهدوء والسلام والأمن .. جذب انتباهه خلال طيرانه صفحات النيل التي تتموج فى انسياب وتدفق منتظم ، فقرر أن يهبط مرة أخرى إلى السور الملاصق للنهر ليشاهده فى تأمل .. رأى صولاته المنعكسة فى الماء – وهذه هي أول مرة يرى فيه نفسها – فانهبر كثيرا وبهت من فرط الاعجاب بذاته مسبحا قدرة الخالق العظيم .. أدرك أنه لم يخلق لحياة الشقاء والكفاح من أجل الرزق .. قطع أفكاره صوت نباح كلب متصل يقترب منه فى سرعة ، وبالفعل لمح على صفحات النيل منظر لكلب مفترس يتدلى لسانه فى شراسة ويعدو باتجاهه حتى أصبح على بعد خطوة واحدة ، وقبل أن يقفز الكلب ، كان العصفور قد طار مرة أخرى ناجيا بروحه من موت محقق .. سرت فى جسده قشعريرة باردة كالثلج ، ارتجف قلبه خوفا ، شعر أنه سيتجمد .. أنه فى حاجة للدفء .. أخذ يطير ويحلق بلا فائدة .. أن الجوع يغص بأمعائه .. أضحى غريبا طريدا شريدا بمفرده ، لعن الحرية واليوم الذي انتظره ليطير .. كان بأعماقه رغبة جارفة فى العودة إلى منزله وقفصه ، يبحث فى الأشجار التي مر بها فى رحلته داعيا الله أن يعثر على تلك الشجرة التي انطلق منها عقب هروبه من منزله .. وبعد جهد طويل ومحاولات مضنية – كاد اليأس يملا قلبه خلالها – وجد الشجرة بالفعل ثم أبصر نافذة المنزل المواجهة لها مازالت مفتوحة .. حمدالله كثيرا .. ثم اتجه إليها طائرا .. وبعد دخوله المنزل ..رأى باب القفص مازال مفتوحا .. دلف بسرعة ولهفة إليه ، ثم أغلق الباب ، وبدأ فى تناول الطعام والشراب الموضوع بنهم كبير .