مع تصاعد الأزمة بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية في الوقت الراهن، عاد من جديد الحديث عن ذلك التشابك "التاريخي" بين السلطات الثلاثة في مصر "التنفيذية والقضائية والتشريعية"، ومدى اضطلاع كل سلطة منهم بمهامها واختصاصاتها بعيداً عن سطوة أو سيطرة السلطتين الأخرتين. دستورياً وعلى مدار عقود، قام النظام السياسي في مصر على الثلاث سلطات السابق ذكرها، ولكن "المصري" كمواطن عادي لم يكن يعلم له إلا سلطة واحدة بل لم يكن يعرف له سوى حاكم واحد، هو من يمثل هذه السلطة، ذلك الشخص هو رئيس الجمهورية، الذي لم يكن يمثل "دستورياً" سوى رأس السلطة التنفيذية، السلطة التي تقوم في الأساس على الامتثال لأحكام "القضائية"، والتسليم بما يقرره أعضاء "التشريعية". الفرعون الأوحد بدءاً من مذبحة القضاة الشهيرة في نهاية الستينيات، بدأت تطفو على السطح تساؤلات لدى النخب السياسية والفكرية حول واقع العلاقة بين السلطات الثلاث وخاصة السلطتين التنفيذية والقضائية، إذ ثبت للبعض أن مصطلح القضاء المستقل ما هو إلا شعار للاستهلاك الإعلامي لا يلبث أن ينهار أمام أول مواجهة بين السلطتين، والتي تحسم دائماً لصالح "الرئيس" الذي يملك ويمنع ويمنح ويقرر. وتعود حادثة "مذبحة القضاة" حينما عمد وزير العدل في ذلك الحين, محمد أبو نصير إلى طرح أسماء عدة مرشحين عنه, في الانتخابات التي أجريت آنذاك لمجلس نادي القضاة المصري. إلا أن أيا من هؤلاء المرشحين لم ينتخب فجاء رد وزير العدل متمثلاً بما يعرف "بمذبحة القضاة"، حيث تم فصل جميع أعضاء مجلس نادي القضاة, إضافة إلى عدد كبير من القضاة ورجال النيابة العامة. ثم أعيد تعيين أولئك القضاة والمحامين الذين كانوا مستعدين للتعاون مع النظام، وكان من أبرز نتائج هذه المذبحة إنشاء المحكمة الدستورية العليا. تحالف خفي أما الرئيس الراحل محمد أنور السادات، فقد جاء للحكم وما تزال سلطة القضاء تعاني من الضربة التي وجهها نظام عبد الناصر، فعمد في بداية حكمه على طمأنة القضاة والابتعاد عن اي صدام معهم، حيث أعاد القضاة الذين تعرضوا لهذه المذبحة إلى مناصبهم من جديد، كما عطل بشكل أو بآخر أعمال المحكمة الدستورية لعدة سنوات، قبل أن يعود القضاء قبيل نهاية حكم ليواجه قضيتين من أبرز القضايا في عهد السادات، الأولى منها التي نظرت محاكمة المتهمين في أحداث 18 و19 يناير الشهيرة عام 1977، والثانية منها التي نظرت الحكم في مدى صحة قرار السادات بعزل البابا شنودة من البطريركية، حيث حكمت في الأولى ببراءة جميع المتهمين في حين حكمت بصحة قرار الرئيس في الحكم الثاني، وهما الحكمين اللذين أحدثا وقتها حالة من الجدل ما بين صراع بين السلطة والقضاء في الحكم الأول، واتهامات ب "تحالف خفي" بين التنفيذية والقضائية في الحكم الثاني!!. وجاء عهد المخلوع مبارك، الذي حاول فيه التصالح مع الجميع، بعد جولة قوية من الصراع بين السادات ومختلف مؤسسات الدولة، حتى بدأ الصراع الأبرز مع السلطة التشريعية، حين نجحت كتلة الإخوان والوفد في انتخابات 1987 وأظهرت تواجداً ملموساً داخل البرلمان، هنا ظهرت بوادر أزمة تصدى لها القضاء حين قضى بحل هذا المجلس وإلغاء نتيجة الانتخابات، وذلك للتخلص من هذا التواجد المعارض داخل المجلس، ومن هنا باتت تتضح حالة من الوئام بين الرئيس والقضاء، تلك الحالة أو العلاقة التي تصدى لها بعض القضاة في بعض الأحيان لمواجة جور السلطة التنفيذية على القضائية وهو الصراع الذي ظل ممتداً وبلغ ذروته عام 2005 حين هب القضاة ليفضحوا هذا الكم من التزوير في الانتخابات البرلمانية، وترك مبارك لهؤلاء القضاء حفنة من أمناء الشرطة "سحلوا" بعضهم بشكل أوجد حالة من الصراع المباشر والخطير بين مجموعة من القضاة اعتبروا نفسهم يمثلون تيار الاستقلال داخل القضاء في مواجهة مبارك، والذي وجه إليهم ضربة حين سقط ممثليهم في انتخابات 2007 أمام قضاة محسوبين على وزير العدل آنذاك ممدوح مرعي، وظلت العلاقة على هذه الوتيرة حتى خاصة وأن مبارك كان طوال هذه الفترة يصدر قرارات مباشرة متعلقة بالقضاء دون أن يستشير فيها القضاء أو حتى يعرضها على البرلمان... مثال ذلك قراراه بمد سن المعاش للقضاة وغيره من القرارات. اتجاه معاكس وبعد الثورة، يبدو أن الأمور قد سارت بشكل معاكس بين القضاء والسلطة التنفيذية، فقد اتهم البعض القضاء بأنه بات "حجرة عثرة" أمام بناء مؤسسات الدولة ما بعد الثورة، حيث أصدر احكاماً بحل مجلس الشعب بعد أن أصدر حكماً بحل الجمعية التأسيسية الأولى لوضع الدستور، فضلاً عن غيرها من الأحكام التي تم النظر إليها باعتبارها مخططاً للثورة المضادة، وظهر أول رئيس منتخب بعد الثورة ليواجه بمفرده قضاءً طالب الثوار بتطهيره ونائباً عاماً هو الآخر كان من أبرز مطالب الثورة إقالته بل ومحاكمته في بعض الأحيان!!.. وما إن قام مرسي "الرئيس المنتخب" باتخاذ قرارات من شأنها تلبية بعض هذه المطالب الثورية حتى قامت الدنيا ولم تقعد وأحدثت حالة من الجدل والصراع، ما تزال تبعاتها إلى الآن، بل بات الصراع الأساسي والوحيد حالياً هو صراع السلطة والقضاء، وهو الصراع الذي يُرى بأكثر من وجه، فهناك من يراه صراعاً بين الثورة وقضاة "مبارك" دون غيرهم من قضاة الاستقلال، وهناك من يعتبره صراعاً ناشئاً عن مخطط إخواني ل "أخونة القضاء" يتصدى له القضاة، والذين يمثل معظمهم شخصيات محسوبة بشكل أو بآخر على عهد مبارك. وأياً كانت ماهية الصراع الحالي إلا أن الحقيقة التي لا لبس فيها، أن القضاء وإن كان قد عانى من تبعية النظام الحاكم أو بالأحرى السلطة التنفيذية، إلا أنه بعد الثورة بدأ يخطو أولى خطواته نحو الاستقلال، ورغم العثرات و"المطبات" الحالية إلا أن القضاء إذا ما وصلت إليه الثورة شأنه في ذلك شأن العديد من المؤسسات، فإن هذا بلا شك سيكون أمراً تاريخياً بالنسبة للقضاء نحو الاستقلال بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.