من أبغض الأسماء و أحط الشخصيات التى ظهرت فى تاريخ العالم الإسلامي وتسببت للمسلمين فى هزائم كبرى وكوارث كلًّفت المسلمين شلالات من الدماء البريئة –إسم وشخصية "عمر بن حفصون" الذى ظهر فى الأندلس سنة 880/881 م .. نشأ سيِّء السيرة عنيفاً يعتدي على النفس والمال، ولم يلبث أن هجر أسرته، وأطلق العنان لأهوائه وغيِّه؛ فالتفّ حوله جماعة من أهل الفساد والبغي، فألّف منهم عصابة أُطلق عليها إسم "الأربعين لصًّا" وكان هو زعيمهم الباطش.. تحصّنوا بجبل بُوبَشْترْ "Bobastro" في جبال سييرانيفادا جنوبي الأندلس .. قاطع الطريق هذا تحوّل بقدرة قادر إلى زعيم ثورة انتهز ضعف الدولة الإسلامية وتفكّكها وانخراط أمرائها فى حروب داخلية؛ كلّ أمير كان يستدعى ملوك الشمال من النصارى يستقوى بهم على إخوانه المسلمين.. إنتهز ابن حفصون هذه الفوضى وأقام لنفسه إمارة مستقلة فى جنوب الأندلس ورأى بعبقريته الشريرة أن يتفوق فى التقرُّب إلى ملوك الشمال المتربصين الأقوياء فأعلن اعتناقه للمسيحية وسمى نفسه صمويل بن حفصون.. على أمل أن يجتذب ملوك النصارى لمساعدته فى الْتهام الإمارات المتنازعة.. والاستيلاء على أكبر المعاقل الإسلامية الباقية فى قرطبة..
ستجد هذه الطموحات الإجرامية والسمات العقلية والنفسية تتكرر فى تاريخ الانقلابات والهزائم التى مرّت على العالم المسلم عبر التاريخ.. تأمل فى أقرب الأحداث إلينا: هذا التشابه العجيب بين صمويل حفصون وبين جون جرانج فى السودان وما حدث فيها من انشقاقات وحروب انتهت بتفكيك الدولة.. وانظر فى أحداث مصر الأخيرة: لترى مدى التشابه العجيب بين زعماء الانقلاب العسكري، ودُعاته الكبار من أمثال البرادعى:
الانتماء إلى القوى الخارجية المعادية وتنفيذ مخططاتها لتحقيق مآرب شخصية ومصالح أنانية.. بحماقة وغدر منقطعيِ النظير.. والسطو على الشرعية القانونية والدستورية .. وتعريض البلاد لخطر حرب أهلية.. قد تجر البلاد إلى مواجهة بين الجيش من ناحية وبين الكتلة الإسلامية الوطنية الرافضة للانقلاب العسكري من ناحية أخرى.. وهذا ماتحلم به أمريكا وإسرائيل.. إذ تدفع الأمور فى مصر إلى هذا الاتجاه المدمر.. وبذلك يتحقق لها تفكيك الدولة وتقسيمها إلى دويلات..
لا أقول أن المؤامرة سائرة بالضرورة إلى هذه النهاية كما هو مرسوم لها؛ فلا يزال الشعب مرابط فى الميادين يعارض الانقلاب و يفاجئ الجميع بالإصرار والثبات.. وتزداد صفوفه بالملايين من أبناء الشعب الذين استيقظوا من خديعة الإعلام الذى صور لهم الصديق عدوًّا والعدوَّ صديقًا.. وسوَّق لهم الانقلاب العسكري على أنه ثورة أو تصحيح لثورة وهى فى الواقع الثورة المضادة بكل ملامحها وشخوصها وأفكارها الإقصائية المخرّبة..
(2)
لا ينبغى أن ننسى أن قيادات الجيش الكبار –لعقود من الزمن منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد- يتلقّون من أمريكا حواليْ 1,5 مليار دولار سنويًّا، وأنهم يتحكمون فى 40% من الاقتصاد الوطني.. يديرونه بينهم فى شركات ومشرعات مدنية وتجارة واسعة.. تدرّ أرباحًا هائلة.. لا تدخل فى ميزانية الدولة.. ولا يعلم عنها أحدٌ شيئًا.. ولذلك يرفضون أن تخضع هذه الأموال لرقابة البرلمان أو أجهزة المحاسبات فى الدولة.. بحجة أنها ميزانيات سرية للجيش لا يجب أن يعرف الشعب عنها شيئًا.. وليس هذا صحيحًا؛ فهذه الأموال لا علاقة لها بمخصّصات الدفاع التى تُدرجها الحكومةسنويًّا ضمن ميزانيَّاتها العامة..
ومع التحول الديمقراطي للثورة المصرية الذى يقتضى قيام برلمان منتخب يمنحه الدستور الجديد صلاحيات الرقابة والمحاسبة على أموال الدولة بكل مؤسساتها، أصبح من غير الممكن أن تُدار هذه الأموال بعيدًا عن الرقابة الدستورية.. لذلك كان أهم بند من بنود بيان الانقلاب العسكري بعد عزل الرئيس المنتخب هو إلغاء الدستور وإلغاء مجلس الشورى.. وسابقًا: تم إلغاء مجلس النواب بواسطة المجلس العسكري برئاسة طنطاوى لنفس الغرض فقد بدأ النواب يطالبون بالرقابة على أموال الجيش..
وقد اشتركت المحكمة الدستورية العليا فى هذه المؤامرة.. لذلك جيئ برئيس هذه المحكمة وتم تعيينه رئيسًا للجمهورية.. لسببين.. أولهما: اعترافًا بسابق فضل المحكمة .. وثانيًا: لتكريس وضع غير دستوري.. وتأكيدًا على الاتجاه الحقيقي للمستقبل..
والذين فهموا من خطة الانقلاب فانتازيا أخرى عليهم -إن كانوا مخلصين للحقيقة- أن يعيدوا قراءة الموضوع فى ضوء هذا التحليل..
(3)
تابعت على شاشة "الجزيرة مصر" لقاءً مع د. أحمد الجنزوري فى مكتبه الفاخر وخلفه أرفف لكتب مرصوصة بعناية شديدة لا يبدو أنها قد استُعملت من قبل.. يذكر التسجيل أن الجنزورى هذا هو محامى وأستاذ قانون فى كلية حقوق.. عيَّنه الانقلاب عضوًا فى لجنة للمصالحة الوطنية قيد التشكيل.. وضع الصحفي أمامه مجموعة من الأسئلة الذكية أحرجته حرجا شديدا وفجّرت غضبه ولكن تلقّى الصحفي إهانات الرجل بصبر وهدوء، وثبات.. ولم يتراجع..
العجيب فى هذا الحوار أنه كشف لى عن شخصية لا يمكن أن تصلح لمصالحة وطنية بأي صورة من الصور فالرجل معبَّأٌ بكراهية دفينة وخصومة مبيَّتة لفصيل كبير من الفصائل السياسية يتمنى أن يغمض عينيه ويفتحهما فلا يرى له أثرا باقيا فى الوجود.. وأقصد به التيار الإسلامي كله .. وقد اختزله فى جماعة الإخوان المسلمين واعتبر الجميع فروعًا لها وانبثاقات تابعة لفكر واحد ينبغى استئصاله من الساحة السياسية..
إنه يردّد أكاذيب الإعلام الفاجر بلا خجل ويتهم القنوات الإسلامية بالتحريض على العنف ولا يرى فى الدعوات الصريحة من القنوات الأخرى بالعنف والقتل والسباب المتواصل على مدار العامين الماضيين أي غضاضة.. ويصف إصرار الرافضين للانقلاب بأنهم يحرضون على العنف.. تُرى ما حجته..؟ إنه يقول إنهم دعاة استشهاد..! [يعنى مستعدون للموت ولن يتخلّوا عن مناصرة الشرعية بالوسائل السلمية التى كفلها الدستور..]..
ولأول مرة أسمع أن هناك عداوة تاريخية مستحكمة بين الإخوان المسلمين وبين الجيش .. ويبدو أن الرجل ليس له أدنى معرفة بتاريخ مصر ولا بتاريخ التعاون بين الجيش والإخوان منذ حرب فلسطين سنة 1948 دليل الرجل أنهم قتلوا السادات.. فلما نبهه الصحفي أن الذى قتل السادات أناس آخرون تهرّب من التعليق وقال عبارة فضفاضة تدل على غبائه: إنهم خرجوا من عباءة الإخوان..!
ولما استنكر الصحفي أن يضع الدستور المصري لجنة معينة وغير منتخبة .. قال: إنهم نوابغ القضاة وأساتذة قانون بالجامعات.. وسخر من الصحفي ومن الانتخابات التى جاءت بواحد دبلوم زراعة ليضع دستور مصر.. لا أعرف من أين استقى هذا الخبر..!
هذه عينة من أدعياء المصالحة الوطنية.. واضح من كلامه أنه يقوم بدور استئصالي إرهابي وليس دور مصالحة.. وليس هذا بغريب على محامٍ قضى شطرا من حياته يدافع عن قتلة ثورا 25 يناير 2011 ويدافع فى المحاكم عن المسئول الأول العادلى وزير الداخلية الأسبق.. وكل الشخصيات الفاسدة التى نهبت أموال مصر..
لقد ظلّ خلال الحوار يهدد الصحفي المسكين بأن على الجزيرة أن تغيّر من مسلكها ولا تنحاز لمعارضى الانقلاب الذين ملأوا الميادين وعطلوا الحياة لأنهم إرهابيون.. يحاول الصحفي أن يلفت نظره أن الجزيرة محايدة وتعرض الرأي والرأي الآخر وتضع صورا لمظاهرات رابعة فى شاشة واحدة مع صورة المؤيدين للانقلاب فى التحرير فيزجره حتى لا يكرر كلمة الانقلاب مرة أخرى.. وهذا نموذج مصغر للإرهاب الأكبر والطغيان القادم إذا نجح الانقلاب العسكري..
(4)
عندما تخرس الألسنة فلا تنطق بالحقيقة.. وعندما يرى بعض الناس الانقلاب العسكري الغادر ولا يسمّونه باسمه الحقيقى، فاعْلم أن ضمير المجتمع يحتضر وأن لحظة الغضب الإلهي واقعة لا محالة .
أخطر الكوارث التى حلت بمصر لأكثر من نصف قرن كانت بداياتها انغماس الجيش فى السياسة.. وانشغال قادته بصراعات القوة داخل الجيش وخارجه وقد تبلور هذا فى هزيمتين تاريخيتين أمام القوى الأجنبية الغازية:
فى العدوان الثلاثي سنة 1956 عندا اضطر الجيش للانسحاب المهين من سيناء أمام القوات الإسرائيلية.. بعدها اختفى الجيش من الساحة وتولى الشعب مسئولية المقاومة المسلحة الباسلة فى بورسعيد، وفى المرة الثانية فى حرب الأيام الستة سنة 1967 الذى سحقت فيه إسرائيل القوات المصرية فى سيناء وضربت طائراتنا الحربية كلها وهى رابضة على الأرض.. بينما وزير الدفاع وقادة الجيش مجتمعون فى طائرة واحدة تحلق فى سماء مصر معزولة عن المعركة تبحث عن مطار سليم تهبط فيه فلا تجد؛ بعد أن دمرت إسرائيل أرض المطارات العسكرية كلها..
ونحن نعلم خلفية هذه الكارثة الوطنية فقد كان عبد الناصر وصديقه عبد الحكيم عامر فى صراع خفي حول السيطرة على الجيش.. فتحطم الجيش وخضعت سيناء للاحتلال الإسرائيلي ستُّ سنوات متعاقبة.. ستجد دائما أن هزائم مصر الكبرى تكمن فى عقل بعض قادته الذين تسيطر عليهم شهوة السلطة السياسية فيتحطم الجيش وينهزم الوطن .. ويجب أن يتنبّه الجميع إلى هذه الحقيقة .. وأن يعملوا على تصفية هذا الانقلاب بالحكمة وروح الوطنية المخلصة.. فى الجيش وخارج الجيش..
إن العسكريين الذين صنعوا هذا لانقلاب ودمروا التطور السياسي الديمقراطي فى مصر يعودون لنفس الخطأ التاريخي وهم يعتقدون أنهم يحسنون صنعًا .. ولكنهم –فى حقيقة الأمر- يسيئون للجيش وللشعب معًا.
وهذه أولى ملامح الكارثة التى تلوح فى الأفق:
كتلة الشعب المسلم يتظاهرون فى الميادين تظاهرًا سلميًّا دفاعًا عن الشرعية والديمقراطية المهدرة؛ فيُحاصرون فى المساجد والميادين ويُقتلون ويُقتل نساؤهم وأطفالهم بدم بارد.. وتتكالب عليهم قوى الشر لتشويه صورتهم وأهدافهم.. وتحريض إرهاب الدولة على استئصالهم..
"اللهم إنك تعلم أن أناسًا من عبادك قد أخلصوا لك وتبتّلوا راكعين ساجدين.. صائِمين نهارك قائمين ليلك.. يرجون رحمتك ويخشون عذابك.. اللهم فأنزل عليهم سكينتك وأيدهم بنصرك.. ياعزيز ياجبَّار.. ويا أرحم الراحمين.."