الإعلان في الأسبوع الماضي عن تشكيل تحالف في العراق بين الحزبين الكرديين الرئيسيين وحزبي الدعوة والمجلس الأعلي الشيعيين هو تطور هام. ولكن أهمية هذا الإعلان لا تتعلق بتحريك العملية السياسية أو إنقاذها وحراستها، ولا تتعلق بحماية نظام ودستور ارتبطا ارتباطاً وثيقاً بالغزو والاحتلال، ولا حتي بمحاولة إطالة عمر حكومة المالكي. هذه عناصر ضرورية لبناء خطاب تسويغ التحالف الرباعي، أو تحالف المعتدلين كما أسماه أصحابه. الأهمية الحقيقية تقع في قضية أخري، لم يكن من السهل علي المتحالفين أو اللائق التصريح بها الآن. تعرف الأطراف المعنية بالعراق، الإقليمية والدولية، علي السواء أن نظام الحكم الحالي في بغداد هو مجرد صورة وهمية، وأن قدرته علي البقاء بمعزل عن الحماية التي توفرها القوات الامريكية مستحيلة. حكومة المالكي ذاتها وصلت منذ زمن إلي نهاية عمرها الافتراضي. قدرة هذه الحكومة علي الإنجاز في مجالات الخدمات والأمن، كما كل الحكومات السابقة لها، معدومة. وهي حكومة طائفية، لا تقل طائفية عن حكومة الجعفري ووزرائها القتلة، حكومة لا ترغب ولا تستطيع بناء قاعدة إجماعية عراقية. أما نظرة القوي الإقليمية لهذه الحكومة، بما في ذلك المحيط العربي، فهي نظرة استخفاف واحتقار. أقام الاحتلال مسخاً في العراق أطلق عليه اسم دولة، وفي كل محاولات ملء هذا المسخ بعناصر وقيادات ومؤسسات قابلة للحياة، واجه المحتلون وحلفاؤهم من العراقيين إخفاقاً تلو الآخر. وبالرغم من أن من الصعب التنبؤ بخطوة جبهة التوافق القادمة، فإن خروجها الجزئي (طارق الهاشمي لم يزل في موقعه، ولم يزل يتفاوض) من النظام وحكومته هي خطوة ضرورية، تأخرت طويلاً. كان تحليل الحزب الإسلامي المبكر (وهو عماد جبهة التوافق) في ضرورة ألا يعزل العرب السنة أنفسهم نهائياً عن العلمية السياسية صحيحاً. فقد استخدمت القوي الطائفية والعرقية الحليفة للاحتلال المقاومة التي انطلقت في المناطق ذات الأكثرية العربية السنية، ومقاطعة أغلبية القوي والشخصيات العربية السنية للعملية السياسية، مبرراً لإبادة العرب السنة وتحطيم مناطقهم وصنع واقع يؤسس لتقسيم العراق والإطاحة بوحدته أرضاً وشعباً. ما لم يدركه الحزب الإسلامي وقادة التوافق أن ما هو صائب في السياسة اليوم ليس بالضرورة صائباً دائماً. ما حدث في النهاية أن التوافق أصبح أداة لتمرير مشروع دستور بشع، طائفي، وتقسيمي، ومصدر تهديد لبقاء العراق وهويته وسلام شعبه. ولم يكن غريباً بالتالي أنه ما إن أقر الدستور حتي دخل العراق دوامة عنف أهلي كادت أن تدفعه إلي حرب أهلية طاحنة. الاعتقاد بان حادثة تفجير مقام العسكريين في سامراء هي التي فجرت العنف الأهلي، هو اعتقاد ساذج وتبسيطي، يرتكز إلي تحليل ينم عن الكسل الذهني أو التضليل. انفجر العنف لأن الجميع استشعر أن الوطن لم يعد وطناً، وأن البلاد في طريقها للانقسام إلي مناطق نفوذ، يفوز بالحصة الأكبر منها من يحسم ميزان القوي الطائفي والفئوي أولاً لصالحه. المهم، أن الوعود التي قدمت بتعديل الدستور سرعان ما تبخرت، وشكلت الحكومة الجديدة، التي افترض أنها حكومة دائمة، علي الأساس نفسه الذي بني عليه نظام ما بعد الاحتلال: المحاصصة الطائفية والعرقية، وسيطرة فئة صغيرة علي القرار. في مثل ظروف العراق الحالية، أصبحت الحكومة أسيرة لحسن أو سوء نوايا رئيسها، وليس لقواعد وأنظمة وقوانين ثابتة يجمع عليها العراقيون. وقد أظهر المالكي من سوء النوايا ما لم يقل عن من هم قبله، إن لم يزد بكثير. وكان لا بد بالتالي من أن يتسارع انحدار البلاد نحو الفوضي والعجز وفقدان الثقة المتبادلة بين شخصيات الطبقة التي فرضها الاحتلال علي العراقيين. خروج التوافق من الحكومة، وما تلاه من تجميد وزراء القائمة العراقية لمشاركتهم في الحكم، لم يكن هو الذي أوصل العملية السياسية والحكومة إلي حافة الانهيار وجردها من الشرعية. الانهيار وفقدان الشرعية كانا هناك من البداية؛ ولكن خطوة التوافق والعراقية مثلت الإعلان الرسمي عنهما. حتي الامريكيون وصلوا إلي ذات الاستنتاج منذ شهور؛ ما دفعهم إلي الحفاظ علي الوضع الحالي كان الخشية من انهيار سياسي كامل في المنطقة الخضراء، في وقت تحتاج واشنطن المحافظة علي وهم الاستقرار لتحسين فرص التقرير المقرر أن تقدمه قيادة الاحتلال الشهر القادم حول جدوي الاستراتيجية الامريكية في العراق. إلي أين سيذهب التوافق من هنا؟ لا أحد يمكنه التوقع؛ فقد أظهر قادة التوافق من قبل القليل من الصلابة والتصميم، كما أظهروا قابلية للانصياع للضغوط، والامريكية منها علي وجه الخصوص. ولكن استخفاف التوافق، والقوي السياسية الأخري المعارضة لحكومة المالكي، بقدرة التحالف الرباعي علي إنقاذ النظام والحكومة، هو استخفاف مبرر بلا شك. التحالف الرباعي، مثلاً، لا يضيف دعماً برلمانياً جديداً للمالكي، فأطرافه شريكة في الحكومة أصلاً، وتصب أصواتها لصالحها. الحقيقة أن الدعم البرلماني للحكومة قد انهار تماماً، والتحالف الرباعي يوحي بانقسام نهائي في الدعم الشيعي البرلماني للمالكي، إلي جانب فقدانها دعم كتلتي التوافق والعراقية وممثلي الفضيلة؛ وهو الانقسام الذي سيستفحل إن تعرضت إيران لهجوم امريكي علي أي نحو من الأنحاء. أما الحفاظ علي النظام والدستور، فهي مهمة مئتي ألف من الجنود الأجانب الذين يحتلون البلاد. ويدرك الموقعون الأربعة علي بيان التحالف أن وجود هذه القوات لا يضمن وجود النظام الذي يديرونه وحسب، بل ووجودهم الشخصي في العراق كذلك. بدون قوات الاحتلال، سينهار المعبد علي من فيه، أو علي كل من سيتأخر عن الفرار منه. المسألة اللافتة في كل هذا، أنه وبالرغم من تصريحات قادة التحالف الرباعي المعبرة عن الحرص علي انضمام جبهة التوافق، أو علي الأقل الحزب الإسلامي، إليهم، فإن عدداً من المؤشرات السابقة واللاحقة لإعلان بيان تشكيل الجبهة توحي بأن الأربعة لم يكونوا حريصين فعلاً علي التحاق السنة العرب. كما أن البنود التي ضمها بيان الجبهة ليست أكثر من لغو لا قيمة له. فلا مسألة كركوك يمكن حسمها باتفاق الأربعة، ولا مسألة تقسيم الثروة النفطية، ولا مجمل القضايا الرئيسية التي أشار إليها البيان. العراق السياسي المحتل منقسم علي ذاته، بغض النظر عن وزن وقيمة وفعالية مختلف الشخصيات والمجموعات السياسية التي طفت علي سطحه منذ 2003. وعندما يكون الانقسام بعمق وحجم ما يشهده العراق اليوم، فإن من المستحيل، ومن العبث، التعامل مع إشكاليات كتلك التي يعد تحالف الأربعة بالعمل علي حلها. لماذا إذن هذه الجبهة؟ لماذا الإعلان عنها الآن، وما الذي تعنيه للتوقعات القريبة لمستقبل العراق؟ سواء صرحت القوي السياسية المختلفة أو لم تصرح، فإن الوضع في العراق يدخل الآن بداية مرحلة الحسم. الترقب الشديد لتقرير قائد قوات الاحتلال والسفير الامريكي في بغداد، وتصور أن مستقبل العراق يرتبط بما سيعلنه التقرير، هو تصور في غير محله. منذ أطلقت استراتيجية زيادة عدد قوات الاحتلال، وأعلن عن ان الحكم علي هذه الاستراتيجية مرهون بتقرير ايلول (سبتمبر)، كان واضحاً أن التقرير سيصاغ في شكل ولغة غير حاسمة. السياسات الكبري للدول الكبري لا يصنعها جنرالات وسفراء، مهما بلغت مواقعهم وأدوارهم من أهمية. الأرجح، أن تقرير الشهر القادم سيؤكد علي نجاحات للقوات الامريكية في جوانب ما، وإلي عدم تحقيق نجاحات ملموسة في جوانب أخري. ولأن من الصعب علي العسكرية الامريكية تحمل مسؤولية الإخفاق، فإن التقرير سيؤكد علي أن الحل في العراق هو حل سياسي في الدرجة الأولي، وأن القادة العراقيين السياسيين يتحملون المسؤولية الكاملة في هذا الشأن. خلف التقرير، قبله وبعده، ثمة إدراك متزايد في واشنطن، في قلب إدارة الرئيس بوش الابن، أن مشروع العراق قد أخفق، وأن لا سبيل لإنقاذه مهما بلغ تعداد القوات الامريكيةالمحتلة. ثمة قاعدة عسكرية، يحفظها كل جنرالات الجيوش الغربية منذ كتب كلاوزفيتز كتابه في الحرب : لا يمكنك أن تعزز الفشل . الإدارة الامريكية هي الآن في معرض إدارة الإخفاق، لا تحويله إلي نجاح؛ في معرض التقليل من الخسائر الاستراتيجية المترتبة علي هذا الإخفاق، ومحاولة محاصرته من التفاقم والتأثير علي الموقع والدور الامريكيين في المنطقة والعالم. آجلاً أو عاجلاً، سيبدأ انسحاب امريكي تدريجي وبطيء من العراق. قد يرافق مثل هذه الخطوة هجوم امريكي علي إيران، يستهدف ضمن عدة أهداف إعطاء انطباع إقليمي ودولي بأن الولاياتالمتحدة قادرة ما تزال علي القيام بمبادرات استراتيجية كبري في منطقة الشرق الأوسط. ولكن بالرغم من تصاعد لغة التوتر بين طهرانوواشنطن، فإن مؤشرات الحرب الفعلية، أي التحضيرات السياسية الامريكية الداخلية وعلي المستوي الدولي، لم تبدأ بعد. يؤثر قرار حرب إيران علي القرار الامريكي في العراق من عدة أوجه؛ ولكن من الضروري عدم المبالغة في هذا التأثير، لاسيما من المنظار الامريكي للأمور. لا تخلي واشنطن عن مشروع توجيه ضربة ما لإيران سيؤخر من بدء الانسحاب الامريكي، ولا الهجوم علي إيران سيؤدي إلي تحسين حظوظ المشروع الامريكي في العراق. استمرار الخسائر الامريكية، الثقل المالي المتزايد للاحتلال، عجز الشتات السياسي المتحالف مع واشنطن في العراق عن بناء دولة ووطن، والضغوط السياسية داخل الولاياتالمتحدة، تجعل العراق الآن، وفي شكل متزايد، عبئاً استراتيجياً أكثر منه جائزة استراتيجية. ولذا، فقبل نهاية العام علي الأرجح، ستعلن الإدارة عن خفض جزئي في تعداد القوات الامريكية في العراق؛ وقد يستمر خفض القوات ببطء خلال العام القادم، عام الانتخابات الرئاسية. هذا لا يعني أن الإدارة الحالية ستخرج من العراق نهائياً، أو حتي أنها ستتخذ مثل هذا القرار. إدارة بوش الابن لن تعترف بالإخفاق في العراق، وستترك مصير الوجود الامريكي فيه لمتغيرات الوضع العراقي والمنطقة وللرئيس المقبل في البيت الأبيض. العراقيون الأربعة الذين التقوا في الأسبوع الماضي، الأكراد منهم والشيعة، يعرفون أن لحظة الحقيقة تقترب. بإعلان أنفسهم جبهة المعتدلين، فإنهم يرغبون في توكيد خصوصية علاقتهم مع الولاياتالمتحدة، بمعني الانضمام لمعسكر المعتدلين العرب الذين تري فيهم الإدارة الامريكية حلفاءها الحقيقيين في المشرق العربي؛ هذا بالرغم من أن واشنطن لم تمنحهم هذا الشرف بعد، أو ربما ستجعلهم ينتظرون إلي أن تنجلي الصورة الإقليمية. الرسالة الثانية، وهي الأهم، التي تحملها جبهة الأربعة، موجهة للداخل العراقي، للخصوم العراقيين، سواء التيار الصدري في المعسكر الشيعي، أو القوي السياسية السنية وقوي المقاومة. وهي رسالة تستبطن إعلان حرب: بمعني استعداد الأربعة للذهاب إلي أقصي ما يمكن الذهاب إليه للحفاظ علي مصالحهم ومواقعهم، وللعمل علي تقسيم العراق، لاسيما في حال بدء انسحاب امريكي ملموس من العراق.