في ظل نظام عالمي يريد التحكم في مقدرات المستضعفين، ويريد تركيع كل من يطالب بالحرية والانعتاق من الاحتلالات بأشكالها المختلفة العسكرية والفكرية والتطبيعية، وفي ظل ما يعيشه الواقع العربي والإسلامي من ثورات حاولت التخلص من طغمة حاكمة جثمت على صدور شعوبها بالحديد والنار لعقود طويلة، نعاين بشكل مستمر التدخلات السافرة من الدول الداعمة للاستبداد والثورات المضادة التي نعيش واقعها الآن في العديد من الدول العربية. إن تدخلات المملكة العربية السعودية والإمارات في مصر – بالتنسيق المستمر مع الأمريكان - وليبيا لا تختلف عن التدخلات الروسية في ليبيا وسوريا، فهي بلاد استبدادية تسعى لتمكين عملائها في المنطقة من أجل تحقيق مصالحها على مختلف الصعد. الروس يعودون بقوة لحلبة المنافسة ومما لا شك فيه أن لروسيا مصالح كبيرة في المنطقة، خصوصا مع محاولات بوتين المستمرة لإعادة فرض روسيا كقطب عالمي ومنافس حقيقي للدول الغربية، ومحاولات روسيا تنويع ذلك التنافس وإخراجه عن الانحصار في الجانب العسكري، حتى إنها قد تفوقت نسبيا في جانب الاستخبارات السيبرانية، وبعد قضية التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية إلكترونيا الحملات الروسية للتأثير عبر الإنترنت، كانت أوروبا تحبس أنفاسها قبل انتخابات البرلمان الأوروبي مع تزايد التقارير الغربية عن محاولات روسية متكررة للتأثير في تلك الانتخابات. كما تحاول روسيا عن طريق الوضع السوري فرض أجندتها وإلغاء مسارات جنيف لصالح مساري آستانا وسوتشي، وهي محاولة لتكريس واقع سياسي سوري جديد تسود فيه الكلمة الروسية على الاقتراحات الغربية لحل الأزمة السورية. انفتاح الشهية الروسية لليبيا وقد انفتحت شهية روسيا بشكل كبير عقب نجاح مساندتها للنظام السوري منذ 2015 حتى الآن، وعملت على التمدد بشكل أكبر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لاسيما في ليبيا بدعمها لخليفة حفتر، حيث تقوم روسيا بطباعة العملة الليبية لصالح مجلس نواب طبرق الموالي لحفتر، بخلاف طباعتها لسندات بقيمة تعدت 23 مليار دولار منذ 2014 متجاوزة البنك المركزي في طرابلس، علاوة على أشكال أخرى مختلفة من الدعم العسكري والسياسي لحفتر. ولكن ما الأسباب التي من الممكن أن تكون وراء هذا الدعم الروسي لحفتر؟ تتعدد الأسباب التي تدفع روسيا لدعمها للانقلابي خليفة حفتر، على الرغم من كونه أداة أمريكية في المنطقة، وباعترافه هو نفسه أنه كان متواصلا مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، بل والحقيقة التاريخية في تدريب الأمريكان له في الثمانينيات من القرن العشرين للانقلاب على القذافي واستخدامهم له في بلاد أفريقية لصالحهم. ولكن تقاطع المصالح والأسباب المهمة للروس تدفعهم لدعمه، خصوصا مع الأهمية الاستراتيجية لليبيا بالنسبة لروسيا. ومن تلك الأسباب التي يمكن الحديث عنها في معرض دعم الروس لخليفة حفتر ما يلي: أولا: الهدف الأمني الذي تعتبره العديد من الدول الغربية والعربية حصان طروادة، وهو "الحرب على الإرهاب"، حيث تعمل روسيا على منع أي زعزعة للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط حتى لا ينعكس ذلك على الوصول إلى حدودها. ومن ذلك وصول فصائل إسلامية مسلحة إلى سدة الحكم أو اكتساب شرعية وجود وممارسات من حكومة قائمة، مما يمثل ظهيرا ومنطلقا وبيئة حاضنة لما يمكن أن تعاني منه روسيا مجددا من الجماعات الإسلامية المسلحة في القوقاز أو الجماعات الإسلامية عموما، والتي دائما ما كانت روسيا تُنظِّر في البرلمان الأوروبي وفي المحافل الدولية بكون تلك الجماعات تسعى لإعادة الخلافة الإسلامية، وهي الفكرة التي ترفضها روسيا شكلا وموضوعا وتعد من أكبر الدول المناوئة لها عمليا في العالم.. ثانيا: لطالما عملت روسيا على تحقيق الهدف الجيوسياسي التاريخي وهو تأمين الوصول المستمر للمياه الدافئة، وهو هدف استراتيجي دائم لروسيا، ويتجلى أيضا – بخلاف ليبيا – في سيطرة روسيا الكاملة على منشأة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية بالقرب من الساحل الشامي. ثالثا: النفوذ العسكري الروسي وإيجاد موطئ قدم في المناطق الاستراتيجية. وقد كان لروسيا تاريخ من النفوذ العسكري في ليبيا إبان الحقبة السوفيتية وبعدها، بما في ذلك: تمركز أكثر من 11,000 جندي سوفيتي في ليبيا بين عامي 1993 و1992، علاوة على تقديم المشورة العسكرية للحكومة الليبية فيما يخص شؤون الدفاع والأمن. وأيضا تدريب القادة العسكريين الليبيين. ولم يقف الأمر على هذه الحقبة، بل امتد كذلك بين عامي 2004 و2011. ونتيجة لذلك، تعتمد ميليشيات حفتر بالكامل تقريبا على التدريب والأسلحة الروسية، مما يجعل روسيا مرشحا مثاليا لتدريب ودعم القوات الليبية المستقبلية. وهذا ما يفسر أيضا الدور والنفوذ اللذين استفادتهما روسيا في ليبيا وبسبب حفتر. رابعا: الأهداف السياسية التي تتمثل في اهتمام روسيا المتزايد بشكل عام في إقامة علاقات وطيدة مع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما في ذلك مصر والجزائر والمغرب وليبيا. وقد استطاعت روسيا اختراق الوضع السياسي المصري المتقارب بشكل كبير مع أمريكا. بل أصبح هناك جدول زيارات دوري بين بوتين والسيسي، علاوة على صفقات الأسلحة الروسية لمصر، إضافة إلى المناورات العسكرية الكبيرة بين الطرفين. وتعتبر مصر وسيطا مهما في العلاقات بين روسيا وحفتر، وبوابة مهمة لدعم روسيا غير المباشر له بإمداده بالأسحلة والعتاد، علاوة على استضافة مصر لقوات روسية في قواعدها العسكرية على الحدود مع ليبيا لدعم حفتر، حسبما أفادت بعض التقارير منذ 2017. خامسا: الأهداف الاقتصادية والتجارية التي تمتد من الحقبة السوفيتية، حيث استطاع الاتحاد السوفيتي الانفتاح بشكل كبير على نظام القذافي باعترافه الفوري بالنظام الثوري الجديد الذي أعلنه، مما حدا بليبيا إلى التوجه للسوفيت وشراء المعدات العسكرية منهم بكميات هائلة، خاصة خلال السبعينات والثمانينات، وهو ما يريد بوتين أن يجدده في الحقبة الحالية بدعمه لحفتر المرشح لإعادة العمل على إحياء مثل تلك الصفقات كثمن زهيد مقابل الدعم السخي لسيطرته على الحكم في بلد نفطي كبير مثل ليبيا. ولا تغيب شركات النفط والغاز عن فكر الروس وتوجههم في مثل ذلك الدعم، فقد منحت شركة تات نفط (شركة النفط والغاز الروسية) وشركة غازبروم التابعة للدولة الروسية في عام 2007 مجموعة من اتفاقيات الاستكشاف ومشاركة الإنتاج في ليبيا، بالإضافة إلى توقيع البلدين على العديد من الاتفاقات الاقتصادية والتقنية والعسكرية منذ 2008، وهو ما توقف بعد النزاع الليبي في 2011، ولا ترغب روسيا في خسارته. وفي 2010 قامت ليبيا باستثمار كبير في شركة روسال، وهي أكبر منتج للألمونيوم في العالم، كما وافقت روسيا على صفقة سلاح بقيمة 1.8 مليار دولار مع ليبيا، ولكن بعد الربيع العربي لم يتم تنفيذ تلك الصفقات، مما يدفع روسيا لعدم تضييع الفرصة، ومحاولة التدخل لإعادة إحياء تلك الصفقات الثمينة مجددا. وكل ما سبق غيض من فيض، وما خفي أعظم.