يعتبر الدولار واحد من أهم أدوات الهيمنة الأمريكية في العالم، لاسيما في ظل سيطرته على النظام النقدي و المالي العالمي، ما جعله مصدر دخل كبير للإقتصاد الأمريكي، وقد كرست إتفاقيات "بريتون وودز" عام 1944 من هيمنة الدولار الأمريكي على النظام النقدي و المالي العالمي، وحل بديلا للجنيه البريطاني باعتباره عملة تدوال عالمية, ووسيلة عالمية لقياس القيمة الى جانب كونة العملة الأساسية في الإحتياطات النقدية في العالم. وأصبحت الإحتياطات النقدية العالمية في أغلبها في شكل دولار الذي صار يمثل 77 بالمائة من تلك الإحتياطات. هيمنة الدولار جعلت الغالبية العظمى من المعاملات المالية و المبادلات التجارية تتم بواسطته، وعلى رأسها ضبط أسعار المواد الأولية و خاصة النفط، ما يجعل كل دولة أو شركة ترغب في شراء بضاعة ما من السوق الدولية مجبرة على أن تحصل على الدولار لتحصل على ما تريد. وفي ظل كون الولاياتالمتحدةالأمريكية هي التي تتحكم في الدولار، فهي بالتالي تتحكم في التجارة التي تتم بواسطته وخاصة تجارة النفط, و هذا ما جعل الدولار عَصَب و قبضة هيمنة الولاياتالمتحدة على العالم. وإذا كانت هيمنة الدولار على النظام النقدي و المالي العالمي واحدة من أهم عوامل الهيمنة الأمريكية في العالم، فما الذي يمكن أن يحدث لو خسر الدولار وضعه هذا؟ وما لذي يحدث لو أن أصبح وضع الدولار مهددا؟ أي أن الهيمنة الأمريكية ككل مهددة. لماذا هذه المقدمة؟ ببساطة، لأن هيمنة الدولار باتت مهددة بالفعل، والسبب في ذلك سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي يتبعها مع العديد من الدول، وتعتمد فقط على الحرب والعقوبات الاقتصادية في التعامل مع دول لها ثقلها العالمي والإقليمي، مثل روسياوالصينوتركياوإيران والاتحاد الأوروبي. ترمب، يتعامل مع العالم وكأنه حاكم امبراطوري في القرن الثامن عشر، امبراطور امبريالي على الطريقة الكلاسيكية، عليه أن يأمر وعلى الجميع أن يستمع وينفذ، لكنه لم يعتقد أن العالم اليوم في القرن الواحد والعشرين، وان حالة القطب الواحد التي عشاتها أمريكا منذانهيار الاتحاد السوفيتي، لم تعد متاحة كما كانت، وأن دول العالم الآن سترد على حرب ترامب، بشكل يهدد هيمنة أمريكا. لقد جاء رد الدول التي تضررت من قرارات أمريكا ترامب الاقتصادية، بالتخلي عن الدولار في معاملاتها التجارية البينية، في رد سريع وربما يعقبه خطوات أخرى. البداية كانت من روسياوتركيا، وهماالدولتان اللتان فرض عليهما ترامب عقوبات اقتصادية، فجاء الرد سريعا بتشكيل جبهة موحدة ضد الدولار الأمريكي، بعد أن قررت الدولتان أن تكون المعاملات التجارية البينية بالعملات الوطنية، الروبل الروسي والليرة التركية، وذلك في كل التعاملات التجارية. روسيا زادت ترامب من الشعر بيتا، بإعلان شركة "روس أوبورن إكسبورت" التي تُدير 85 % من صادرات الأسلحة الروسية، تخليها كليا عن الدولار الأمريكي في جميع مبيعاتِها من الأسلحة والمعدات العسكريّة. الخطوات التالية كانت متلاحقة وكبيرة أيضا، فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعلن عن توصله لاتفاقات مع الصينوإيران وأوكرانيا وروسيا بالتعامل بالعملات الوطنيّة لهذه الدول، بدلا من التعامل بالدولار. وفي أول تنفيذ فوري لهذه السياسة، بدأ قطاع السيارات الروسي في بيع إنتاجه إلى تركيا بالليرة التركية. كرة الثلج بدأت للتو، لكنها على ما يبدو لن تتوقف قريبا، فرئيس الوزراء الروسي، ديمتري ميدفيديف، قال إن العقوبات الأمريكية التي فرضت على النظام المصرفي الروسي هي بمثابة "إعلان حرب"، وأكد أن بلاده لن تتنازل عن الرد، متوعدا بتخفيض استثمارات بلاده بالدُّولار إلى الحدود الدنيا، بما في ذلك السندات الأمريكية. وأعلن دينيس مانثوروف، وزير التجارة الروسي، أن بلاده اتخذت قرارها بالتعامل مع كل دول الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بالعملات الوطنية، بِلاده قرَّرت التَّعامُل مع جميع دُوَل الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينيّة بالعُملات الوطنيّة، كما ستتم المعاملات التجارية مع أوروبا باليورو. لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، فالاتحاد الأوروبي هو الاخر دخل على الخط، ويدرس تسديد أسعار وارداته النفطية وتَعاملاته التجارية مع إيران باليورو. خبراء اقتصاد عالميون قالوا إن التقليل من هذه الخطوات أمر لا تحمد عقباه، لأنه على الرغم من التحول في التعاملات التجارية من الدولار إلى العملات الوطنية أمر محفوف بالمخاطر، خاصة في أيامه الأولى، إذ أن الدولار سيطر على النظام النقدي والتجارة العالمية لمدة تفوق 80 عاما، إلا أن الانفتاح العالمي والتراجع الذي اعترى الهيمنة الأمريكية، سياسيا واقتصاديا، يجعل من احتمالية نهاية سطوة الدولار أمرا واردا، وتزداد المخاطر والاحتمالات إذا توسعت دائرة المنضمين للجبهة المضادة للدولار. تزداد خطورة هذه الجبهة مع انضمام الاتحاد الأوروبي ولو بشكل جزئي، كما ان تواجد دولتين عظميين بحجم روسياوالصين يزيد من قوة وخطورة الجبهة المناوئة للدولار وهيمنته، لاسيما ان الصين تعد ثاني أقوى اقتصاد عالمي بعد الولاياتالمتحدة، وهي أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، وحجم استثماراتها في السندات الأمريكية يصل إلى ترليوني دولار. جبهة الدولار تقريبا لن يبقى مخلصا لها إلا العدو الصهيوني، وبعض دول أوروبا، وكل دول الخليج بلا استثناء، لأنها تعلم تمام العلم أن عروشها مرتهنة بالرضا الأمريكي عنها، في ظل افتقادها لأي مشروعية او شعبية في صفوف مواطنيها، تماما كما يعلم العدو الصهيوني أن قوته العسكرية لن تمنحه أي شرعية في احتلال الأراضي العربية.