ساويرس يقول كلاماً صحيحاً أحيانا فلأنه اقتصادي ويعمل في السوق قال مؤخراً: ان الانشغال الشديد بسعر الدولار انخفاضاً وارتفاعاً عباطة! فليس هذا هو جوهر الاقتصاد. بالفعل فان انخفاض الدولار بشكل طفيف ليس علامة صحة فقد يكون علامة مرض تؤشر إلى أنه انخفاض مؤقت وسرعان ما يعاود الارتفاع!. فإذا كان العمود الفقري لاقتصادنا التابع يتمثل في الاستيراد (سلعاً نهائية ووسيطة) فقد كان ارتفاع الدولار 100% سبباً مباشراً في ارتفاع كافة الأسعار 100% حتى تلك غير المستوردة لأن الكل يتأثر بجهاز الأسعار الكلي. وقد أدى هذا الارتفاع في الفترة السابقة إلى ركود في الأسواق لعدم استطاعة المستهلك الشراء في كثير من المجالات، وقد أدى هذا إلى انخفاض الطلب على الدولار للاستيراد. وهذا لابد أن يساهم في انخفاض مؤقت في سعر الدولار. ولما كانت عجلة الاقتصاد قد تباطأت فإن انخفاض سعر الدولار الطفيف (الآن 16 جنيه) سيعيد عجلة الاقتصاد (آسف عجلة الاستيراد) مما سيؤدي إلى إرتفاعه مجدداً، وفي الأثناء فان أسعار السلع والخدمات لن تنخفض وستظل معرضة للارتفاع دائماً، لأن القائمين على السلع والخدمات يعلمون هذه الحقيقة. كما أن ارتفاع أسعار الوقود والنقل والكهرباء مرة أخرى منتظرة مرتبط بتعهدات أمام صندوق النقد الدولي حتى يتم تسليم الشريحة الثانية من القرض، وهكذا ستظل مصر خاضعة للمرابي اليهودي – الأمريكي (الصندوق) كما كان المفلس يخضع لشروط المرابي اليهودي في العصور الوسطى في أوروبا. الوجه الخاطئ في تصريح ساويرس أو انه يخفيه عمداً، فإن الانشغال الشديد بسعر الدولار طبيعي جداً في ظل اقتصاد تابع. ولكن لا شك أن سعر الدولار هو عرض لمرض التبعية، والانشغال بالعرض لا يعالج أساس المرض العضال، فلن يستريح بال الناس، ولن تأمن الحكومة من غضب الناس مهما اشتدت قبضتها الحديدية. والأهم من كل ذلك أن تستمر مصر تتخبط في قاع العالم الاقتصادي. من علامات المرض العضال، هذا الصراخ الدائم من أجل الاستثمار الأجنبي. ورفع شعار مصر " بلد المتسولين" فنحن نتسول فانلة من رونالدو وأخرى من ميسي من أجل مزادات لعلاج المرضى، بدلاً من سياسة للتأمين الصحي!! وقد جاء خبراء مصريون من أمريكا وغيرها وقدموا اقتراحاتهم لوضع هذه السياسة ولكن أحداً لم يستمع إليهم. ومن علامات الفهم المتخلف للاستثمار الأجنبي، أننا نحاول تقسيم أراضي مصر (وكأننا سمسار لأراضي بلادنا) لاقامة مدينة روسية ومدينة صينية ومدينة هندية وهو فهم مبتذل للمدينة الحرة الصناعية. ومن الأمثلة المثيرة للحنق هذا المشروع للاستثمار المشترك مع شركة نسيج هندية، يقوم على أساس أن تقوم الشركة بتصنيع القطن المصري مقابل أن تضع على السلعة علامة "القطن المصري"، فحتى أعز ما نملك بعد الأرض (وهو القطن) نبيع اسمه فقط وهذا هو دورنا في الاستثمار المشترك. الحل لهذه المأساة ليس عبقريا وليس سرياً وليس خافياً ولكن يحتاج لمواجهة شجاعة ووصل الليل بالنهار لاستبدال هذا الاقتصاد المهترئ التابع باقتصاد ناهض يعتمد على ذاته ويبني نفسه ويتعاون مع العالم الخارجي من موقع القوة والاحتياج. الحل ذكرناه مراراً، وحدث مراراً من قبل.. حتى في مصر في عهد محمد علي وطلعت حرب وعبد الناصر.. وإذا كان في مصر بقايا قاعدة صناعية وخبرة وعمال مهرة ومهندسون أكفاء فهم بقايا هذه العهود التي بادت. إن خطة خمسية واحدة من 1959 حتى 1964 رفعت الاقتصاد المصري إلى مصاف الاقتصادات الناشئة بعد الدول الكبرى (أي ما يوازي الآن النمور الآسيوية والبرازيل...الخ) أما الآن فنحن نتخبط في ذيل قائمة العالم الاقتصادية.انهار الطموح الاقتصادي بعد هزيمة 1967، وانشغل عهد السادت بتصدير البترول وتحويلات المصريين ودخل القناة والسياحة والقروض!! ومنذ أكثر من 4 عقود أصبحت الصناعة على هامش طموحاتنا الاقتصادية، وخرجت الصناعة المصرية من السوق المصري!!. ماهو الحل إذن؟ ما تم ضربه في عهود محمد علي وطلعت حرب وعبد الناصر استقر واستمر في بلدان كانت وراءنا وأصبحت تتصدر العالم الآن: اليابان- الصين- الهند- دول جنوب شرق آسيا- إيران- البرازيل وعدد من دول أمريكا اللاتينية- جنوب أفريقيا- تركيا. السر الخفي لهذا النجاح في كل هذه الدول أن النخبة الحاكمة خاصة الرئيس شكل مجلساً للتخطيط (حتى في البلاد ذات الملكية الخاصة) ووضعوا خطط تصنيع كافة الاحتياجات الأساسية في المجتمع- نعم كافة الاحتياجات.. ونحن هنا نتحدث عن القفزة الأولى. الاحتياجات الأساسية: هي الصناعات الغذائية- الملبس- وسائل النقل حتى وان كانت الدراجات كما بدأت الصين، ثم وسائل النقل العام- الأثاث والسلع المعمرة. وكل هذه تمثل نسبة 90% من احتياجات المجتمع مع الناتج الزراعي الذي يضم الأسماك- والمراعي- والدواجن. وبذلك تنخفض الحاجة إلى الاستيراد بنسبة كبيرة مع وضع خطة لتصنيع السلع الوسيطة. ويتبقى في مربع الاستيراد: المواد الأولية غير المتوفرة في البلاد+ الآلات الحديثة التي لا نملك تصنيعها في المرحلة الأولى. أما المعرفة التكنولوجية فلم ولن يقدمها أحد لك. مجلس التخطيط الذي يصدر قرارات ملزمة للحكومة، والذي يحضره كبار المفكرين الاقتصاديين والمصنعين والمنتجين الذين يضمنون بذلك حماية الدولة لهم، وضمانهم في تحقيق الربح الوفير، في ظل الحماية الجمركية (التي تمارسها أمريكا الآن حتى قبل ترامب فقد وضعت أوروبا وأمريكا جمارك بنسبة 40% على الفولاذ الصيني مثلاً حتى لا تنهار صناعتهم المحلية). مجلس التخطيط هذا الذي يجتمع مرة كل أسبوع برئاسة رئيس الدولة، يقرر تعدد الشركات في كل مجال، حتى لا تحتكر أي شركة وطنية صناعة ما، ولا تجيد صناعتها، وتصبح كارثة للمستهلكين. فالمنافسة الوطنية ضرورية وفي مصر سوق كبير يقترب من 100 مليون، لاحظ انه يمثل ثلث السوق الأمريكي (300 مليون). من الطبيعي في ظل التكلفة الوطنية والمنافسة أن تكون الأسعار اقل بكثير من المستورد، ولكن مجلس التخطيط والدولة تتدخل لضمان حد أعلى لأسعار السلع. هذه السياسة اسمها (سياسة إحلال الواردات) أي تصنيع السلع المستوردة والاستغناء عن استيرادها. وهذا يؤدي إلى ضرب عدة عصافير بحجر واحد.. (1) توسيع قاعدة الانتاج يؤدي إلى تخفيض الاستيراد أي تخفيض الاحتياج للعملة الصعبة أو استخدامها في أمور أكثر حيوية، (آلات- أسلحة) أما وقف استيراد السلع الكمالية وغير الضرورية فلابد من ذلك في مرحلة الانطلاق التنموية الأولى، لأنها تخلق أزمة دولارية من أجل فئة مترفة ومرفهة. (2) زيادة الصادرات: جودة الانتاج للسوق المحلي تجعله صالحاً للتصدير بعد الوفاء باحتياجات الداخل، مع البداية بالأسواق القريبة، غزة (2 مليار دولار)- ليبيا- السودان- ثم البلاد العربية والأفريقية...الخ. أما زيادة الصادرات عن طريق تصدير السلع الأولية: كالقطن والذهب والغاز فهي حماقة ما بعدها حماقة، لأن المواد الأولية عموماً منخفضة السعر عن المواد المصنعة، والأفضل استخدام هذه المواد في التصنيع للسوق المحلي والتصدير. (3) حل مشكلة البطالة، لأن الصناعة تُشغل أعدادا أكبر من أي مجال آخر. (4) رفع مستوى المعيشة للفرد والمجتمع، لأن دخول العمل الصناعي أعلى من الزراعة والمجالات الأخرى، على مستوى الفرد والمؤسسة والمجتمع. (5) تحقيق الأمن الغذائي.. بإنهاء ظاهرة اختفاء سلعة ما لأنه تم تصديرها. فلا يجوز تصدير المواد الغذائية إلا بعد ضمان استيفاء السوق المحلي. (6) إنشاء مدن صناعية خارج الوادي وإنشاء مجتمعات عمرانية متكاملة فيها، لوقف تجريف الأرض الزراعية في الوادي. والصناعة لا تكلف مياها كالزراعة ولدينا مشكلة جوهرية في المياه حتى بدون سد النهضة فما بالك بعد؟!. من المثير للعجب أن المدن التي تم البدء في تأسيسها (الجلالة- العلمين) مدن سياحية ولم توجد مدينة صناعية واحدة خارج الوادي أو في سيناء. وما زال الحديث نظريا عن المثلث الذهبي بين الصعيد والبحر الأحمر. أما العاصمة الادارية فلا يوجد بها مشروع انتاجي واحد. **************** العشوائية لا تحقق شيئا مهما، فإنشاء مصنع هنا أو هناك، أو عندما تظهر مشكلة في لبن الأطفال.. يصدر قرار بإنشاء مصنع للبن الأطفال. فليس هكذا تورد الابل. فاحتياجات المجتمع معروفة، ونحن لا نحتاج لأزمة لأخذ قرار بانشاء مصنع. فالأزمة ثابتة في الاستيراد. وقائمة الاحتياجات يمكن رصدها في 5 دقائق من خلال كومبيوتر وزارة التخطيط أو الجمارك أو وزارة الاقتصاد. لابد من حزمة واحدة من المشروعات يتم تأسيسها في وقت واحد بعضها يحتاج لشهور وبعضها يحتاج إلى سنة أو سنتين. المهم كل سنة يتم تزايد الاعتماد على الذات من خلال تنفيذ الخطة، وليس من خلال المقالات والخطب والوعظ والارشاد لرجال الأعمال. ولابد من ملاحظة أن صناعات التوكيلات والتجميع ليست صناعات وطنية وهي تزيد الاستيراد (المواد الأولية والمكونات) والأرباح تكون للشركة العالمية ولا تساعد في نمو خبرة وطنية صناعية. ولابد في الأثناء من وقف اهانة "مصر" و"المصريين" من اعلام التسول وجمع التبرعات وتوزيع البطانيات على البردانين الفقراء وكأن مصر قد تحولت إلى معسكر لاجئين كبير. لابد من وقف توزيع كراتين الزيت والسكر وكل هذه المساخر. وإذا حدثت تكون بدون إعلان وبدون فخر!! فالحفاظ على معنويات الأمة من الشروط الأساسية للنهضة والاستقلال. ************** بعد مرحلة الانطلاق الأولى (القفزة الكبرى إلى الأمام) التي قوامها الاعتماد على النفس وعندما يستقيم وضع الاقتصاد الوطني وفي ظل رفض بند الشحاذة (القروض- المنح). يمكن النظر بمرونة أكبر في الاستثمار الأجنبي (الاستثمار العربي والاسلامي ليس أجنبيا) ويمكن تخفيض ضوابط الاستيراد. وهذا يتوافق مع الاندفاع في مستوى أعلى من التصنيع وقاعدته موجودة في مصر: الصناعة الثقيلة مع التوغل أكثر في الصناعة الفائقة التكنولوجية. وكل هذا نبدأ فيه من أول الخطة ولكن الأولوية تكون لاشباع الحاجات الأساسية للشعب: مأكل- ملبس- نقل- خدمات أساسية: صحة- تعليم...الخ. أما الآن فنحن نفعل كل شيئ إلا الصناعة: بنية تحتية- مدن سياحية- مشروع زراعي بدون مياه كافية، أو بالأحرى تأتي الصناعة في آخر القائمة، وبشكل عشوائي لا يحقق الكثير. وهكذا سيظل (سعر الدولار) شغلنا الشاغل بلا طائل!!.