في شقته الهادئة بميدان فيني بالدقي، كان الدكتور أمية علوان يجلس وسط أوراقه وأبحاثه ووثائقه التي عكف علي جمعها منذ سنوات طويلة، حصل الرجل علي ليسانس الحقوق في العام 1953، دفعة الدكتور أحمد فتحي سرور ، ظل في مصر ثلاث سنوات فقط، سافر بعدها إلي ألمانيا، أكمل دراسته القانونية ما بين ألمانيا وفرنسا، حتي أصبح أستاذا في جامعة هايدلبرج . لفت نظري أن الدكتور أمية رأس لفترة قسم قوانين البلاد النامية، وهو قسم كما قال لي تابع لمعهد القانون المقارن في كلية الحقوق بجامعة هايدلبرج، اهتم خلال عمله به بقوانين آسيا وإفريقيا وخاصة الدول العربية، وبالتحديد اهتم بالمشاكل التي تقف أمام تطبيق القوانين، بشكل يجعلها أداة في تقدم المجتمعات النامية ليس علي المستوي المادي فقط، لكن علي المستوي الإنساني أيضا.
هذا بالطبع يقربنا من أهمية أن يتحدث الدكتور أمية علوان في الملف الدائر والحائر الآن بين القضاء والكنيسة، من جدل حول حكم الإدارية العليا بإلزام البابا شنودة بإصدار تصاريح الزواج للمطلقين طبقا للائحة 38، وهي اللائحة التي يرفضها البابا ويطعن فيها.
رفض البابا الصريح للائحة 38، لأنها من وجهة نظره تخالف الإنجيل، ومن ناحية ثانية أن المجلس الملي الذي وضعها كان مجموعة من الباشوات، لكن هذه المبررات البابوية الشنودية سرعان ما تتحطم علي صخرة ما يكشف عنه الدكتور علوان من وثائق.
قبل أن نبحث ما لديه من وثائق قال لي:"لائحة 38 فيها بعض المسائل التي لابد من بحثها بشكل دقيق، خاصة أنها صدرت وفي الخلفية التاريخية توتر مكتوم بين المجلس الملي وطائفة الإكليروس منذ القرن التاسع عشر"، سألته عن أسباب هذا، فقال الأمر يحتاج إلي بحث موثق وأنا لم أقم به، لكن شواهد الأمور تقول إن هناك توترا ظل موجودا حتي قرر البابا شنودة أن يرأس هو المجلس الملي.
عندما قال إن معرفته للتوتر بين المجلس الملي ورجال الإكليروس تحتاج إلي بحث، فهو لا يريد أن يتحدث في شيء إلا بعد أن يكون استوفاه بحثا، اطمأننت إلي أن ما سيقوله عن لائحة 38 وجذورها التاريخية كلام علمي وموثق، فهو لا يتحدث من فراغ، ويتعجب من أن المصريين لا يقرأون ولا يحاولون أن يجمعوا الوثائق التي يمكن أن تساعدهم في الفهم.
أخذنا الدكتور أمية علوان إلي العام 1874 تحديدا، وهو العام الذي أرسلت فيه وزارة الحقانية عددا من الأسئلة إلي الطوائف الأخري من غير المسلمين، ومن بينهم الأقباط الأرثوذكس عن الأحكام الخاصة بالزواج والطلاق لديهم، كلف بابا الأقباط أحد رجال الإكليروس بأن يجمع هذه الأحكام ليقدمه إلي وزارة العدل.
كان إيغومانس فيلوثاؤس رئيس الكنيسة الكبري المرقسية بالقاهرة هو من كلفه البابا بجمع الأحكام، وقد أجري بحثا كبيرا، نشر في كتاب للمرة الأولي عام 1896
كانت لدي الدكتور أمية نسخة مصورة من الكتاب في طبعته الثالثة، حرصت علي أن أوثق بياناتها كما جاءت علي الغلاف، وهي:قانون الكنيسة القبطية، كتاب "الخلاصة القانونية في الأحوال الشخصية لكنيسة الأقباط الأرثوذكس"، تأليف المتنيح الأيغومانس فيلوثاؤس، رئيس الكنيسة الكبري المرقسية بالقاهرة سابقا، شرح الكتاب ووضع ملحقاته الفقير لرحمة مولاه جرجس فيلوثاؤس عوض الذي يحتفظ لنفسه بحق إعادة الطبع، الطبعة الثالثة سنة 1650 ش، 1933م.
في كتابه أكد ايغومانس فيلوثاؤس أنه استند في كتابه إلي كتاب آخر نشر للمرة الأولي عام 1230، ووجدت نسخة مصورة من طبعة حديثة منه لدي الدكتور أمية أيضا، وبياناته الأساسية:بحث في التقاليد الكنسية المتبعة في العهود الماضية، وعنوانه "المجموع الصفوي"، وهو كتاب القوانين الذي جمعه العلامة القبطي الطيب الذكر والأثر الشيخ الصفي أبي الفضائل العسال، نيح الله نفسه في فردوس النعيم الذي وعد به السيد المسيح محبيه الأطهار وحافظي وصاياه الأبرار..آمين، اعتني بنشره وشرح مؤداه وإضافة تذييلات عليه الفقير إلي رحمة مولاه جرجس فيلوثاؤس عوض.
يقول الدكتور أمية إن ابن العسال تحدث في أمور الزواج والطلاق، وأقر بأن التطليق في المسيحية يتم لعلة الزني، لكنه أضاف إلي ذلك أسباب أخري، وهي الأسباب التي استند إليها ايغومانس فيلوثاؤس ومنها مثلا: إذا ترهبن الزوجان أو أحدهما برضاهما انفسخ عقد الزواج، وإذا تحايل الرجل علي إفساد عفة زوجته بأي وسيلة من الوسائل، أو تحايل علي إفساد عقيدتها النصرانية، وإذا حاول أحد الزوجين الإضرار بحياة الآخر بأية وسيلة أو علم أن آخرين يسعون إلي ذلك دون أن يمنعه، وإذا خرج أحد الزوجين من الديانة النصرانية، وإذا غاب أحد الزوجين عن وطنه بحيث لا يعرف أحد مقره، وإذا حكم علي أحد الزوجين بحكم جنائي لمدة تزيد علي سبع سنوات.
وحتي يدلل الدكتور أمية علوان علي أن لائحة 38 لها جذور تاريخية وأن من وضعوا هذه الجذور كانوا من الإكليروس وليسوا علمانيين كما تقول الكنيسة أحالنا إلي السبب العاشر الذي وضعه ايغومانس كأحد أسباب التطليق، والمادة 57 من لائحة 38 .. يقول السبب العاشر لدي ايغومانس: "إذا حدث ما يضر بنظام الزواج كوقوع الشر والخصام المتواصلين المؤذيين من أحد الزوجين للآخر ظلما، أو كممانعة أحدهما للآخر في استيفاء حقوقه التي علي قرينه، فمجرد حصول هذا لا يوجب النسخ لأنه ربما يكون ناشئا من خبث نية من الفاعل بقصد إكراه قرينه علي المفارقة، وإنما في هذه الحالة ينبغي للرئيس تدارك الأمر بتحقيق التعدي والتصدي الواقعيين ونصح المفتري أو توبيخه أو تأديبه علي ما تقتضيه الحال أن يصطلحا ويتفقا في العشرة.
وإذا كان الخلاف واقعا من الفريقين معا ويري الرئيس أنهما مشتركان في التعدي فليؤد بهما الأب الروحي حتي يتوبا وينصلح أمرهما، أما إذا كان الخلاف صادرا من أحدهما دون الآخر ولم يكف المخالف عن فعله لا بالنصح ولا بالتوبيخ ولا بالتأديب الروحي، واستمر الفريقان منفصلين عن بعضهما البعض غير مختلطين الاختلاط الزوجي مدة ثلاث سنوات متواصلة بينهما، وتوسط الكهنة ورئيس الكهنة في ذلك التوسط الكافي ولم يهتد المفتري منهما ويرجع عن شره، ورغب المظلوم حله من رباط الزيجة، وترجع بالنظر الدقيق أنه لا وسيلة لامتزاجهما، وتبين للرئيس الروحي أن يجري ما صرح به القانون.
فإن القانون 55 قد صرح بما مضمونه أنه من جري بينه وبين زوجته شر بسبب من الأسباب كانت هي الظالمة فليصبر عليها ويرفق بها حتي ينصلح أمرها، فإن لم يطق وتفاقم شرها فليتوسط القسيس الكبير وإن لم تطع فليتوسط الأسقف مرة واثنتين، وبعد ذلك إن لم تطع أيضا فليتبرأ الأسقف منها ومباح للرجل إن أراد الترهب أو العزوبية فله ذلك، وإن لم يكن قادرا ورغب الزواج فله ذلك. أما إذا كان الرجل هو الظالم لزوجته ويطلب إقامة الشر معها لكي يفارقها فلا يقبل منه ذلك، ويجبر علي مصالحتها، وإن خالف ذلك فليمنع من شركة السرائر ودخول الكنيسة حتي يتوب"
المادة 57 من لائحة 38 تقول هذا السبب العاشر لكن في صيغة قانونية وعصرية، فهي تقول نصا: يجوز أيضا طلب الطلاق إذا أساء أحد الزوجين معاشرة الآخر أو أخل بواجباته نحوه إخلالا جسيما مما أدي إلي استحكام النفور بينهما وانتهي الأمر بافتراقهما عن بعضهما البعض واستمرت الفرقة ثلاث سنين متوالية.
ما الذي يريد أن يصل إليه الدكتور أمية علوان من هذه المقارنة؟يريد كما قال لي أن يوضح أن لائحة 38 لا تخالف الإنجيل كما يقول البابا شنودة، ولم يضعها مجموعة من الباشوات بل جاءت بعد بحوث مهمة في أحكام الزواج والطلاق لدي المسيحيين في العهود السابقة، أي أنها لم تأت من فراغ.
وقال: المشكلة أن البابا شنودة عندما جاء في 1971 وأصدر القرار رقم 7 الذي قضي به ألا يمنح تصريحا بالزواج للمطلقين من خلال المحاكم إلا لعة الزني، منع الحوار حول تفسير آية الطلاق، وأنا أري أن البابا شنودة تبني المنهجية السلفية في تفسير آية الطلاق، وهي المنهجية التي تنحاز إلي النص فقط وتتمسك به، وفي نفس الوقت تنحو إلي التشدد في التفسير.
وردا على سؤال حول أن البابا يقدم رؤيته أو تفسيره في آية الطلاق، ويري أن أي كلام عن طلاق لغير علة الزني مخالف للإنجيل ولا يتفق مع الشريعة المسيحية؟
قال: من حق البابا أن يفعل ذلك بالطبع، لكني أتحدث من خلال ثلاثة مداخل أساسية أعتقد أنها يمكن أن تثير جدلا ونقاشا أرجو أن يكون صحيا ولا تعصب فيه.
المدخل الأول: إن المعني الظاهري للنص الإنجيلي لا يكفي للتشريع، ولكن لابد من التعامل مع المعني الباطني، وهنا يظهر التأويل للنص، وكما نقول "أن القرآن حمال أوجه" فإن "الإنجيل أيضا حمال أوجه"، وعليه فيمكن أن يضع البابا النص الإنجيلي في سياق يتحمل المعني الباطني إلي جانب المعني الظاهري، لأن هذا مما يتفق مع المصلحة البشرية العامة التي هي غاية من غايات الأديان.
المدخل الثاني: إن فكرة التطليق هي في الأساس جزاء للشخص، فالكنيسة تزوج الطرف غير المذنب، أما الطرف المذنب فهي تعاقبه بعدم تزويجه مرة أخري، وهو موقف له تداعيات أخري، فقد وقعت مصر علي معاهدات دولية خاصة بحقوق الإنسان، ومنها العهد الدولي لحقوق الإنسان الاجتماعية، ومن بينها الحق في الزواج، وعندما يمنع البابا شنودة أحدا من الزواج إلي الأبد، فإنه بذلك يضع الدولة التي ينتمي إليها في حرج دولي، لأنها لو أقرته علي ما يريده فإنها بذلك تخالف المواثيق الدولية التي وقعت عليها، وهو ما يدخلنا في بلبلة لا نحتاجها، وليس معقولا أن جمعيات حقوق الإنسان العالمية إذا احتجت علي منع مصريين من الزواج مرة ثانية، أن تقول الدولة إن البابا شنودة هو السبب في ذلك، فالأمر مخجل ما في ذلك شك.
المدخل الثالث: وهو حكم أصدرته المحكمة الفيدرالية الألمانية في العام 2006، القضية كانت لزوجين سوريين تابعين للكنيسة الكلدانية التابعة للكنيسة الكاثوليكية، التي ترفض الطلاق حتي لعلة الزني، حكمت المحكمة برفض طلب الزوجة الطلاق، فأقامت الدعوي أمام المحكمة الفيدرالية التي راجعت الحكم وحكمت بالتطليق، وكانت وجهة نظرها أن الحكم الأول معناه إلغاء حرية الزواج، واعتبر أن التشريع الكاثوليكي مخالف للنظام العام الألماني.
لم يرد الدكتور أمية علوان أن يحمل الأمور أكثر مما تنبغي، إنه يحاول أن يظهر الوثائق التي تؤكد أن ما تعلنه الكنيسة عن لائحة 38 ليس صحيحا، وأن اللائحة بالفعل تتفق تماما مع الإنجيل ولا تعارضه إطلاقا، لكن الأهم من ذلك أن منع مواطنين من الزواج مرة ثانية أمر يخالف النظام العام المصري.. قلت له:لكن في النهاية يا دكتور الكنيسة تقول إنها تتمسك بدينها وكتابها، وأننا مجتمع شرقي له عاداته وتقاليده ولا يمكن أن يتم تجاوزها؟ قال: من حقهم أن يقولوا ذلك بالطبع، لكن لا يمكن أن نتجاهل أن العام تغير، وأن التفسيرات المعاصرة لابد وأن تراعي مصلحة الإنسان، فليس معقولا أن يعاقب إنسان إلي الأبد علي ذنب اقترفه، ثم لماذا نتجاهل أننا نعيش في وطن له قوانينه، ونتعامل مع مواطنين لهم حقوق ولا يجب أن يجور أحد عليها.