قال ليون بانيتا، أحد أعضاء لجنة بيكر-هاميلتون التي أعدت التقرير عن العراق في المؤتمر الصحفي الذي أطلقت فيه اللجنة التقرير للعالم «إن هذا التقرير ليس عن العراق بل عن الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهو محاولة جادة من قبل مجموعة من الأشخاص الذين خدموا في مواقع عامة ويتمتعون بالخبرة والكفاءة، لوضع حدّ للانقسام الحاد في بلدنا، إن بلدنا منقسم انقساماً حاداً حول الحرب على العراق ولا يمكن لرئيس أن يحكم، أو لمؤسساتنا أن تعمل بكفاءة، مع استمرار هذا الانقسام، ولذلك فإن التقرير هو نتاج عمل مجموعة من الحزبين تحاول رأب صدع خطير على وحدة البلد وتوجهه»، وقال هاملتون: «لقد كلفت العراق دافع الضرائب الأمريكي ما يقارب أربعمائة مليار دولار إلى حد الآن وقد تصل الكلفة تريليون دولار دون وجود أفق لإنهاء الوضع في العراق كما نريد ونرغب»، ولذلك فإن التقرير «يحاول الحفاظ على أرواح الأمريكيين ومصلحة الولاياتالمتحدة وأداء الولاياتالمتحدة داخل الولاياتالمتحدة وخارجها»، وهذا هو المنظور الجوهري، والدافع الأساسي، لصياغة هذا التقرير، ولرسم استراتيجيات جديدة للسياسة الأمريكية، كي تعالج الأخطاء التي ارتكبت وتعيد الثقة للأمريكيين والعالم بقدرة الولاياتالمتحدة على تجاوز الكبوة الفظيعة التي تسبّب بها المحافظون الجدد، مدفوعين بشكل أساسي، من قبل اللوبي الصهيوني لخدمة مصالح إسرائيل. وبعد أيام قليلة من صدور التقرير، وبغض النظر عن مدى تجاوب الرئيس بوش مع التوصيات التي تضمنها التقرير، فإن الصورة التي قدمتها مجموعة بيكر - هاملتون قد حسّنت من صورة الولاياتالمتحدة خلال أيام قليلة، أكثر من كلّ محاولات حملات العلاقات العامة التي خصصت لها إدارة الرئيس بوش مئات الملايين من الدولارات دون طائل، وأكثر من الأسئلة السخيفة التي حاولوا إيجاد الإجابة عليها مثل سؤال: «لماذا يكرهوننا»، حيث أوضح التقرير أن هناك في الولاياتالمتحدة من يفهم الأمور المعقدة في الشرق الأوسط ومن يعمل على فكّ تداخلاتها بطريقة واقعية تحاول أن تستجيب لبعض طموحات شعوب المنطقة وتحقق المصلحة الأمريكية الأولى في نفط المنطقة، وهذا بحدّ ذاته أعاد المرونة لصورة الولاياتالمتحدة القاتمة، التي لخصتها عبارات فقدت معناها عند شعوب الأرض مثل «الالتزام بالمسار»، و«سوف نهزمهم»، «ومن ليس معنا فهو ضدنا»، وكلّ هذه المقولات التي ألحقت بالغ الضرر بصورة ودور الولاياتالمتحدة، وكان المستفيد الوحيد من سياسة المحافظين الجدد هم المتطرفون والمتشددون في إسرائيل الذين التزموا الصمت حيال تقرير بيكر - هاملتون، ولم يرشح عن هذا الصمت سوى قلق الحكومة الإسرائيلية بأن ينجم عن التقرير حوار أمريكي مع إيران وسورية مما سيترك إسرائيل وحيدة في مواجهة إيران ومواجهة مستحقات العرب في فلسطين ولبنان والجولان. ويبقى داعمو إسرائيل في الإدارة الأمريكية يسألون الأسئلة التي لا تعبّر إلا عن مصلحة إسرائيل، وليس عن مصلحة الولاياتالمتحدة، وهي: ما هي الشروط التي يجب أن تلتزم بها سوريا وإيران قبل أن تتفاوض معهما الولاياتالمتحدة، بينما قال بيكر بوضوح «لقد كنا نتفاوض لأربعين سنة مع الاتحاد السوفياتي الذي كان يهدد بسحقنا»، وقال آخر: «أنت دائماً تفاوض أعداءك لا أصدقاءك»، أي أن مبدأ الحديث والتفاوض كان مبدأ بديهياً أمريكياً، لكنّ غلاة الصهاينة هم الذين خطوا سياسة المحافظين الجدد بعدم التفاوض مع العرب، كي يتسنى لحكومة الاحتلال الإسرائيلية ابتلاع المزيد من الأراضي العربية واقتلاع المزيد من أشجار الزيتون وارتكاب المزيد من المجازر بحق المدنيين من الأطفال والنساء في فلسطين ولبنان وشنّ الحروب المتتالية على المدنيين في فلسطين ولبنان واغتيال واعتقال كلّ من يقف في وجه سياسة الاحتلال العنصري من التهجير والطرد والإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وتحميل الولاياتالمتحدة وزر كل هذه الجرائم لأن رئيسها يؤكد علناً شراكته مع شارون وأولمرت في كل ما يرتكبانه. ولذلك فالعمل مع التقرير، ومن خلاله لإيجاد مخرج للاحتلال الأمريكي من العراق، يجب أن يركز أول ما يركز على نقاط الافتراق بين السياسة الأمريكية والإسرائيلية في الشرق الأوسط، فبالإضافة إلى وضع حدّ لمعاناة الشعب العراقي، وضمان عدم تقسيم العراق، وإعادة أمنه وسيادته واستقلاله، لحظ التقرير أن «كلّ المسائل في الشرق الأوسط متداخلة وأن أي شيء تفعله في جزء من هذا الشرق يؤثر بأشياء أخرى»، ومن هنا فإن حلّ الوضع في العراق مرتبط أيضاً بإيجاد حل للصراع العربي-الإسرائيلي، وإحياء عملية السلام التي انطلقت في مدريد ودفنها الإسرائيليون تحت ركام الحروب والمجازر وجرائم القتل والاغتيالات والإبادة، وفي هذا اعتراف غير صريح بان الشعب العربي واحد في كافة أقطاره، وأنه يتفاعل مع قضاياه في كل البلدان المختلفة، ولذلك فلابدّ من وضع حدّ لعذابات الشعب العربي في العراق وفلسطين ولبنان وإيقاف سياسة التهديد والوعيد ضد العرب في سوريا والسودان، وإنهاء الإهانات المقصودة للمقدسات العربية، إذا أريد لمظاهر الاحتجاج والنقمة في الشوارع والقلوب العربية أن تهدأ. الشعب العربي الأبيّ، الذي رفض كلّ مقولات النزعة القطرية الضيقة، استمرّ بكل فئاته وألوانه وأطيافه ومذاهبه في التفاعل مع كل آهة في فلسطين ومع كلّ قطرة دم تسفك في بغداد والفلوجة، فوصلت الرسالة للعالم أن هؤلاء العرب الذين يتكلمون لغة واحدة ويكتبون أدبا واحداً، ويدينون لرب واحد أحد، ويفخرون بتاريخ مشترك، ويعيشون حياة مشتركة، لا يمكن الفصل بينهم ببناء جدران هنا وسواتر ترابية هناك وإغلاق الحدود في مكان آخر، أو تأزيم العلاقات بين الحكام هنا، وتوتيرها بين حكومتين هناك، ولابدّ من التوجه إليهم كشعب واحد ومعالجة قضاياهم كسلة واحدة، إذا ما أريد لهذه المنطقة أن تنعم بالأمن والاستقرار الحقيقيين. أي أن التقرير لحظ، ولو بشكل خجول، البعد القومي للأزمة في العراق وفلسطين ولبنان وأضيف أيضاً السودان والصومال، ولا يمكن معالجة الوضع في أي بلد عربي بشكل كامل ونهائي، دون أخذ البعد القومي بالحسبان، كبعد حقيقي فاعل ومؤثر في كل أطراف المعادلة وفي كل مكونات المسائل المطروحة على الساحة العربية. إذا كان كاتبو التقرير الأميريكيون يسجلون إيماء بالبعد القومي من أجل مصلحة أمريكية، فكم حريّ بالعرب التمسك بالبعد القومي لتحقيق مصالح عربية حقيقية وحيوية لجميع العرب. إذاً، نستطيع القول إن التقرير يشكل صفعة حقيقية لسياسة المحافظين الجدد وإعلامهم الذي أكد على أن الصورة أهم من الواقع، ولذلك اصطنع صورة للعرب المقاومين ضد الاحتلال الأجنبي بأنهم إرهابيون، مبرّرا بذلك كل ما تمارسه إسرائيل من إرهاب وقتل وقمع واغتيالات. ويمكن القول إذاً إن التقرير يشكل التفاتة جدية من قبل ساسة ذوي مصداقية، وان كان هدفهم خدمة مصالح بلادهم وحسب، لواقع الحال في الشرق الأوسط وضرورة العمل على معالجة هذه الحال. ولكن يجب ألا نتوقع من كاتبي التقرير التفكير بالمصلحة العربية أبداً، فهم يفكرون بمصلحة بلادهم وحسب، وهذا حقهم وواجبهم كما يرونه، ولكنهم يفتحون الباب لأمثالهم من الساسة العرب الحريصين على التفكير بمصالح بلادهم والدفاع عنها، ولذلك ليس مستغرباً «أن تقتصر أولويات التقرير على ضمان هيبة ومصالح الولاياتالمتحدة وحفظ ماء الوجه للإدارة الأمريكية»، بل المستغرب هو أن يستمر بعض الساسة العرب بالعمل وفق توجه رسمي أمريكي نقضه الأمريكيون أنفسهم، ودعوا إلى استبداله بتوجه آخر، أكثر حكمة وجدوى. والمستغرب أيضاً هو ألا تتشكل مثل هذه المجموعة، عربياً، لتضع في أول أولوياتها ضمان حقوق ومصالح العرب في العراق وفلسطين ولبنان والسودان والصومال من منظور عربي يحفظ الكرامة العربية ويحقن الدماء العربية التي طال أمد سفكها، ويعمل مع الأسرة الدولية من خلال تبادل المصالح مع العقلاء على الساحة الأمريكية، بما يضمن مصلحة العرب وحقهم في أرضهم وديارهم، وبما يضمن وجودهم كلاعبين أساسيين ذوي كرامة، وأحفاد حضارة أصلية، على هذه الأرض لديهم الكثير الكثير مما يقدمونه للإنسانية بعد أن يضمنوا لشعوبهم العيش بحرية حقيقية وسيادة فعلية وديمقراطية ووطنية نابعة من رؤيتهم ومصلحتهم القومية، هل يمكن لعشرة شخصيات عربية، ذات مصداقية على الساحة العربية وذات تاريخ نزيه ومشرّف، أن تكتب تقريراً مماثلاً أو مقابلاً لتقرير بيكر-هاملتون، يوضح الأولويات العربية في الأقطار المختلفة والقضايا العربية الأساسية من منظور قومي نزيه ووطني شريف، حتى وإن كانت التوصيات الصادرة عن ذلك تحرج البعض من الحكام كما وجد الرئيس بوش نفسه وحكومته في موقف صعب؟ وهل يمكن أن نتعلم من خصومنا أن المصلحة الوطنية هي العليا وأننا يجب أن ننال شرف التأكيد عليها والعمل من أجلها، مهما كانت الظروف ومهما كان الثمن؟