لم تكن مشاهد القتل الوحشى التى يمارسها الجيش النيجيرى بحق المدنيين العزل والتى بثتها قناة الجزيرة سوى عملية ( كشف ) عن الشق الغاطس من الأزمة الكبيرة التى تعيشها نيجيريا عامة والأغلبية المسلمة خاصة. وحتى تتضح ملامح الأزمة الحالية دعونا نسترجع الماضى القريب والبعيد، لعل وعسى أن نفهم حقيقة ما يحدث هناك. دخل الإسلام نيجيريا فى أوائل القرن العاشر الميلادى على يد فقهاء الأندلس، وقامت قبائل الهوسا التى تنتشر قى الشمال الغربى الأفريقي بدور كبير فى نشر الإسلام هناك وخاصة فى شمال ووسط نيجيريا، حتى تكونت فى عام 1804 م (( خلافة سوكوتو )) قادها عثمان دانفودو والتى وحد بها شمال نيجيريا بكامله تحت رايته وحكّم الشريعة الإسلامية فى جل شئون الخلافة الإسلامية الجديدة واستقر لها الأمر بشكل كبير فى عام 1893 م. فى حين ظل الجنوب يمثل المسيحيون فيه نسبة كبيرة من مجمل السكان وإن كان المسلمين لهم تواجد هناك ولكنه أقل عددا ( تعداد السكان حاليا 150 مليون نسمة يمثل المسلمون منهم أكثر من 65 % ). ثم كانت الطامة الكبرى والتى نشأت بمقدم الإحتلال البريطانى فى عام (1900)، ليعيث فسادا وبطشا فى الدولة الإسلامية الناشئة حتى إنتهى به الأمر بإحلال القوانين البريطانية محل الشريعة الإسلامية فى كافة المعاملات حتى تحولت الشريعة إلى شىء من التراث بنهاية الإحتلال !!. بعد ذلك حرص الإحتلال البريطانى - عندما أوشك على الرحيل ( 1960 ) - على إعطاء المسيحيون نفوذ كبير فى البلاد إلى حد جعل رئيس الدولة مسيحى يحكم أغلبية مسلمة !!، ولك أن تتخيل حجم النفوذ المسيحى فى كافة مؤسسات الدولة إذا كان الرئيس ذاته مسيحى. ظلت أوضاع المسلمين فى نيجيريا تتجه للأسوء، نتيجة المصادمات العنيفة التى كانت تحدث بين الدولة والمواطنين المسلمين الذى يطالبون بحقوقهم المسلبوه سواء فى إدارة الدولة أو فى الخدمات المقدمة لهم فضلا عن تحكيم الشريعة الإسلامية ، كما فاقم من حدة التوترات وجود ( 250 ) قومية وعرقية وقبيلة يغلب على الكثير منها الإنتماء القبلى والعرقى عن الإنتماء للدوله ككل. بعد ذلك حدث تغير نوعى عام 1999 م بانتقال الحكم من العسكر إلى المدنيين وبدأ تطبيق القانون الفيدرالى والذى يقضى بالسماح للولايات بتطبيق القوانين الخاصة بها مما سمح للولايات الشمالية بالبدأ فورا فى تطبيق الشريعة الإسلامية حتى أصبحت هى القانون الأساسى لجّل الولايات الشمالية تقريبا ( أكثر من 12 ولاية شمالية طبقت الشريعة )، مما أثار حفيظة المسيحيين خشية أن تمتد المطالبات بتطبيق الشريعة إلى الولايات ذات الثقل النسبى للمسيحيين بها ودارت مواجهات دامية بين الطرفين. لم تكن الأسباب الدينية أو القبلية فحسب هى المسببة للتوتر، ولكن الفساد الهائل المستشرى فى كافة مؤسسات الدولة والذى جعلها من أكثر دول العالم فسادا واحتكارا للثروة والسلطة فى يد فئة محددودة للغاية، أضف إلى ذلك الفقر الشديد والمدقع لأغلب السكان ( أكثر 100 مليون نسمة تحت خط الفقر !! ) رغم أن نيجيريا هى أكبر منتج ومصدر للنفط فى أفريقيا !! بل تعد مصدرا أساسيا وحيويا للنفط للدول الكبرى مثل الولاياتالمتحدة وبريطانيا وهذا أيضا جعلها ساحة لصراعات وتدخلات الدول الكبرى للسيطرة على النفط بها. كان طبيعيا إذن أن تنشأ جماعة مثل بوكو حرام ( Boko Haram ) – معناه بلغة الهوسا ( تحريم التربية الغربية) وسط هذه الأجواء من الفقر والجهل والصراعات الطائفية والقبلية والفساد المستشرى، فمعظم أفرادها طلبة لم يتسنى لهم إكمال تعليمهم حتى لقبوا بطالبان نيجيريا!! وهى جماعة ترفض قيم الحضارية الغربية التى يراد فرضها على اهالى نيجيريا خاصة فى الولايات المسلمة وتسعى لمحاربة الغزو الثقافى الغربى الذى يضغط بشدة على المجتمع النيجيرى ومع حدة الجذب الطائفى واشتداد حملات التنصير بشكل صريح لحد تعليق لافتات فى شوارع المدن ذات الأغلبية المسلمة تدعو للتنصير المباشر، تحركت بوكو حرام محاولة فرض الشريعة الإسلامية كما تراها هى، فبدأت فى مهاجمة مقرات الشرطة والإشتباك مع السلطات فحدثت مصادمات دامية خسر فيها الجميع بوكوحرام والدولة والمواطنين الذين قتلوا بلا ذنب أو جريرة. قد تكون المبررات التى انطلقت منها الجماعة لها وجاهتها من شدة الفساد والإستبداد والفقر والمرض والتنصير والتغريب، لكن المؤكد أن أسلوب الصدام مع الدولة بهذا الشكل، ليس له سند من عقل أو شرع أو منطق فهى مواجهة خاسرة بكل تأكيد. على الطرف الآخر تعتبر ما قامت به السلطات النيجيرية من جرائم القتل بدم بارد بحق أعضاء الجماعة دون تفكير فى الدخول معها فى حوار ودون محاكمات دليل على حجم الإستبداد والطغيان الجاثم على صدور المجتمع النيجيرى، مما يزيد من إحتمالات تسارع وتيرة العنف هناك، خاصة بعد إعلان بوكوحرام إنضمامها لتنظيم القاعدة، مما يجعلها مستباحة تماما من قبل الجميع السلطة والمجتمع والدول الكبرى. يبقى الحل فى تدخل العقلاء هناك أصحاب المنهج الإسلامى الوسطى مثل جماعة تعاون المسلمين فى محاولة لرأب الصدع بين الطرفين بمطالبة السلطة هناك بالتوقف عن جرائمها فى حق المواطنين وبوكوحرام بمحاولة تصحيح الفكر المتطرف المسيطر عليها. أكثر ما يحزن المرء أن ما يحدث فى نيجيريا هو مشهد مما تحياه الأمة جميعا نفس السيناريو والإنتاج والمشاهد بل حتى نفس الأبطال ربما الفرق الوحيد هو الضحية ومكان التصوير!!، قد يكون المكان فلسطين، العراق، أفغانستان، اليمن الخ... فمتى نفيق من ثباتنا العميق ؟!! .