في مصر فقط أصبح خبر الانتحار في يوميات المصريين بعد ما آتي الانقلاب العسكري وأطاح بالأخضر واليابس في عرش مصر، ودمر معنويات المواطنين، فالانقلاب الذي شرد شعبًا، وجوع أمة بأكملها بث في نفوس المصريين اليأس والإحباط؛ جراء صعوبة المعيشة وتدهور الحالة الاقتصادية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة ناهيك عن اعتقال الشباب والطلاب داخل السجون، والممارسات القمعية بحق المصريين، وعودة الدولة الأمنية والبوليسية، وانتهاك كرامة الإنسان، وسلب حقوقه وإرادته، وتكميم الأفواه وحبس حريته . ففي مصر أصبح مصير أغلب الشباب والطلاب إما داخل السجون والمعتقلات معذبون تنتهك حقوقهم الإنسانية، أو مطاردون أو مهاجرون خارج البلاد يبحثون عن بلد أخرى؛ هربًا من السلطة الغاشمة في مصر الانقلاب. بات خبر الانتحار ضيفًا رئيسًا في يوميات المصريين خلال الآونة الأخيرة، فما يكاد يمر يوم إلا ونسمع فيه عن واقعة انتحار جديدة، في مشهد يدق ناقوس الخطر في المجتمع من ارتفاع معدلات الانتحار. فتارةً ينتحر شاب شنقًا، وتارةً أخرى ينتحر بإلقاء نفسه أمام المترو، وثالثة فتاة تخنق نفسها، ورابعة وخامسة وأعداد ترتفع ومخاوف من مجهول ينتظر شباب مصر في ظل قبضة الانقلاب التي تتسع، ومع اتساعها يتزايد إقبال قطاع عريض من المصريين على الانتحار الذي هو بالأساس لا يجوز شرعًا. إذا حصرنا آخر ثلاثة أشهر فقط؛ فسنجد أن معدلات الانتحار بلغت نحو 63 حالة، موزعة على محافظات مصر المختلفة، ما بين شباب ونساء، وبحسب التوزيعات خلال الأشهر الثلاثة الماضية، فقد سجل شهر سبتمبر 15 حالة انتحار، و 26 حالة في شهر أكتوبر، و16 حالة في شهر نوفمبر، ونحن في مستهل شهر ديسمبر بلغ حدد حالات الانتحار 6 حالات حتى الآن، كان آخرها أول أمس الأحد؛ حيث توفي شاب في أواخر العشرينيات يدعى "إسلام"، إثر محاولته الانتحار شنقًا بشرفة منزله الكائن بشارع إيران المتفرع من شارع محيي الدين أبو العز بالبحوث في الدقي، ولفظ إسلام أنفاسه الأخيرة في مستشفى "المروة" القريب من منزله، بعد محاولات إنقاذه، وأشار أقاربه إلى أنه ميسور الحال ومتزوج منذ 5 سنوات، ولم ينجب حتى الآن، وكانت والدته تزوره وقت وقوع الحادث. وفي السياق ذاته، انتحر شاب شنقًا بإحدى غرف منزل أسرته مساء الأربعاء الماضي، بعد مشاجرة مع والده قرر على إثرها الانتحار. يُشار إلى أن حالة "عمرو" كانت الحالة الثالثة على مدار 24 ساعة فحسب؛ حيث سبقته حالتا انتحار، إحداهما كانت لفتاة ب"أوسيم" طالبة بالمدرسة الفنية التجارية؛ قامت بإلقاء نفسها من الدور الثالث بالمدرسة، وتم نقلها إلى مستشفى أوسيم المركزي، التي حولتها إلى القصر العيني. أما الثانية فكانت لشاب في "بنى سويف"22 سنة، مقيم بشارع المستشفى بمدينة ببا، انتحر إثر مشاجرة مع والده من خلال تناوله مادة سامة (توكسوفين)، ولفظ أنفاسه الأخيرة داخل قسم الاستقبال والطوارئ بمستشفى بني سويف العام. اللافت، أن معدلات الانتحار في مصر تزيد يومًا بعد آخر في ظل الأوضاع السياسية القمعية، والارتفاع المتزايد في الأسعار، والأزمات الاقتصادية، فيما أكد أساتذة علم النفس الاجتماعي أن "الجهل.. والفقر.. والمرض"، والتي تزايدت معدلاتها بعد الانقلاب بصورة كبيرة، هي أهم الدوافع لإقدام المصريين على الانتحار. وفي دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية جاءت مصر في المركز 96 على مستوى العالم من حيث عدد الأفراد المقبلين على الانتحار، وكان ذلك في عام 1987 ثم جاء عام 2007 ليشهد 3708 حالات انتحار متنوعة من الذكور والإناث، وقد سجل المركز القومي للسموم التابع لجامعة القاهرة وقوع 2355 حالة انتحار بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 22 و23 عامًا، طبقًا للإحصائيات الرسمية. وطبقًا لترتيب الأممالمتحدة العام الماضي عن معدلات الانتحار، فقد تم وضع مصر في المرتبة ال181 عالميًا، واليابان على سبيل المثال في المرتبة ال14 عالميًا، ما يعني أن الانتحار ليس قضية اقتصادية وحدها. وخلال الفترة من عام 2011 أي بعد ثورة يناير وحتى عام 2014، رصد جهاز التعبئة والإحصاء 18 ألف محاولة انتحار، منها 3 آلاف لمن هم أقل من 40 عامًا، وبلغ المعدل السنوي خمس محاولات من أصل ألف شخص، وذلك بزيادة 12% عما كانت عليه عام 2010. هذا وتشهد مواقع التواصل الاجتماعي حالة من الجدل حول ارتفاع معدلات الانتحار، وسط حالة من النقمة على أوضاع البلد المتدهورة والقمعية التي تدفع الشباب للتخلص من حياتهم، فيما كتب الشاعر خالد الطبلاوي قصيدة بعنوان "لا تنتحر" وأنشدها المنشد الإسلامي "رامي محمد"؛ وجه فيها رسالة للشباب بألا ينتحروا وأن يتمسكوا بالأمل، وهذه بعض كلماتها: " لا تنتحر" يَا مغلقَ الأبوابِ مهلًا وانتظرْ وامددْ يديْك إلى السحابة واعتصرْ أملًا وعشْ لا تنتحرْ فالكونُ لن يأسى عليك أتظنُ من غَرَسَ الظلامَ بناظريْك سيحنُّ من أسفٍ إليك وعِنْدَ قبرِكَ يعتذر؟ == للكون رحمنٌ رحيم يَقْضِي بسلطانٍ قديم فدَعِ الكآبة واصطبر كم في الطريقٍ من الحفر وحدائقٌ تُهْدِي الثمر وبكل دربٍ منحنى فيه المتاعبُ تنتظر وبه من الأنوارِ ما يهدي البصائر كلما زَاغَتْ من السير العَسِر لا تنكسِرْ