قد يتفهم المرء موقف دول ما يسمي بالعالم الجديد في مقاطعتها مؤتمر الأممالمتحدة لمناهضة العنصرية المنعقد في جينيف، لكن انضمام كثير من الدول الأوروبية للمقاطعة يعكس سياسة غربية عامة تتميز بالعداء لبقية العالم وتؤكد استمرار عنصرية أوروبا واستعلاءها التمييزي علي بقية شعوب الأرض. فالولايات المتحدةالأمريكية واستراليا وكندا ونيوزيلاندا دول عنصرية بالأساس، لا تختلف كثيرا عن الدولة الصهيونية في نشأتها. فكل تلك دول العالم الجديد قامت علي أكتاف مغامرين وقطاع طرق ومساجين أوروبيين ألقي بهم في تلك المناطق الجديدة فأبادوا سكانها الأصليين في حروب إبادة جماعية وتطهير عرقي ليكونوا تجمعات استيطانية أنجلوساكسونية أصبحت دولا كبيرة ومؤثرة.
ولا يختلف ذلك عما فعلته أوروبا بسكانها اليهود الذين اضطهدتهم ثم تحالفت مع الحركة الصهيونية لتلقي بهم في فلسطين لتكوين امتداد استيطاني سرطاني في العالم العربي.
فأمريكا وكندا قامتا أساساً علي إبادة الهنود الحمر، سكان أمريكا الشمالية الأصليين، في أبشع أشكال التطهير العرقي التي عرفتها الإنسانية. كذلك قام المجرمون البريطانيون بالمجازر بحق الأبورجينز سكان استراليا الأصليين والبولينيريين سكان نيوزيلندا الأصليين ليقيموا دولتين من أكثر دول العالم صلفاً وعجرفة في الدفاع عن العنصرية الأوروبية. وليس غريباً أن تلك الدول الأربع بالتحديد هي أكثر دول العالم تأييدا للصهيونية وعداءً للعرب والمسلمين وكل شعوب العالم غير الأنجلوساكسونية عموما.
لذا ليس بمستغرب أن تقاطع تلك الدول التي قامت علي أساس عنصري وإرهاب دموي مؤتمرا للأمم المتحدة لمناهضة العنصرية. إذا أنها رغم اعتذاراتها مؤخرا عن جرائمها الإرهابية بحق السكان الأصليين، إلا أنها لا تقيم وزنا علي الإطلاق لكل ما ينادي به من احترام لحقوق الإنسان ومكافحة التمييز العنصري.
إنما تلك الحملة الأوروبية، بمقاطعة هولندا وإيطاليا وألمانيا، وتخفيض تمثيل بقية دول الاتحاد الأوروبي (الذي تترأس دورته الحالية تشيكيا المتحمسة للصهيونية والمعادية للعرب والمسلمين، والتي يتسم رئيس حكومتها بعنصرية وصلف يفوقان ما عرفناه من جورج بوش وتوني بلير) فلا تشير إلا إلي توجه جديد يكشف عن الأسس الحقيقية للعنصرية والتمييز الغربي عموما والأوروبي تحديدا. وبعيدا عن الادعاءات الكاذبة بفجاجة وصلف أن المؤتمر منتدي للحد من الحريات والتصريحات «المعادية للسامية» فإن الهدف الحقيقي من مقاطعة الغرب هو رفض أي إدانة لإسرائيل ولو بالكلام، رغم أن الدماء التي يسيلها إرهاب الدولة الصهيونية لا تجف وممارساتها الإرهابية والعنصرية في تصاعد دائم علي مر السنين.
ويعلم هؤلاء الغربيون، قبل غيرهم، أن اتهام معاداة السامية هذا الذي يشهرونه سيفا في وجه أي منصف للحقيقة ما هو إلا أداة أخري من أدوات الإرهاب والتمييز العنصري. ولا يتعلق الأمر بعقدة ذنب غربية - أوروبية تجاه اليهود الذين أحرقهم الأوروبيون واضطهدوهم، وإنما هو حماية لكل أشكال الاحتلال الاستيطاني والتطهير العرقي والتمييز العنصري التي تشكل مكونًا أساسيًا في الثقافة والحضارة الغربية عموما. ولا فائدة ترجي من الجدل والنقاش واستخدام المنطق في تفنيد تلك الادعاءات، ذلك أن الموقف الغربي الذي تجلي بوضوح بمقاطعة مؤتمر الأممالمتحدة يستند إلي صلف وعجرفة هي سمة كل من لا يحترم الأصول والحقوق.
إنما المقولة التي يستند إليها الغرب، وفي مقدمته دول العالم الجديد المبنية علي ممارسات عنصرية، وهي أن «انتقاد إسرائيل معاداة للسامية باعتبارها دولة اليهود التي تمثل الصيغة الجمعية لهم» مقولة زائفة وملفقة كما يعلم مطلقوها ومروجوها قبل غيرهم. فالصهيونية لا تمثل اليهودية كديانة ولا معتنقيها، ولا تصل نسبة الصهاينة بين يهود العالم إلي الربع إطلاقا. إنما هي انتهازية الأوروبيين الذين يمتلئ تاريخهم بالممارسات العنصرية التي يمكن بسهولة الاطلاع عليها من تاريخهم، حتي رغم تزييفه المتعمد من قبل أطرافه المنتصرة في الحروب الأهلية ما بينها وحروبها ضد بقية شعوب العالم.
المشكلة ليست في مواقف الغرب، وقواه الجديدة، وأنما في التيارات المائعة في بقية العالم التي تنافق انتهازية الغرب وتتمسح فيه بالتطوع لتضليل الشعوب بشأن تلك العنصرية والانتهازية. والأخطر هم هؤلاء المسمون بالمتلبرلين الجدد في النخبة العربية (وهم أشد خطرا من تيارات المحافظين الجدد والمتطرفين العنصريين في الغرب) الذين يريدوننا قسرا أن نقتنع بأننا مذنبون بحق جلادينا ومحتلينا وقاتلينا. هؤلاء أكثر عنصرية وانتهازية من الغرب، وإن كانت مواقفهم تنطلق من نفاق واضح إلا أنهم يجدون تسهيلات استثنائية من الأنظمة في المنطقة التي تخشي معاداة الغرب أو حتي «الدوس له علي طرف». وربما يكون من مصلحة شعوب المنطقة، ومصلحة هؤلاء «المتخوجنين» أن يتركونا في حالنا ويهاجروا أو يلجأوا إذا سمح لهم لدول العالم الجديد العنصرية الانتهازية التي يتغنون بديمقراطيتها وحريتها وحمايتها لحقوق الإنسان.
ولن يأسف أحد علي هؤلاء، بل ربما نتعاطف معهم وندافع عنهم عندما يكتوون بعنصرية الخواجات وإرهابهم لكن ليس علي أساس أنهم منا، وإنما لكونهم ضحايا ما كانوا يدافعون عنه ويروجون له بغية مصلحة انتهازية زائلة.