ارتوت أرضهم بدماء أهلها، وتبادلوا المجىء بكل بيت بها، ليقدموا العزاء مصحوبًا بالتهنئة على حصول أحد أهل البيت على لقب الشهادة، وهناك بيوت لا يذهب ليعزيها أحد؛ لأنه يكون جميع أهل بيتهم قد حصل على الشهادة، ولكل شارع حكاية.. كل شبر من أراضيها مخضَّب بدماء أهلها.. القلوب تنزف والزغاريد تعانق العويل مودعة شهداء لم يرتضوا التفريط فى الأرض والعرض.. هناك يراقصن بنى صهيون بالكاتيوشا وال F16، غير آبهين بأروحهم، ليتركوا وراءهم تاريخ العِزّة والكرامة، فى أرض الحب والحرب. غزة العِزّة، هكذا يقولون دائمًا وأبدا، فأعوام على احتلال فلسطين ولا يزال القطاع صامدًا، يُعلم سائر بلدان العالم كيف تكون الرجولة؟، يولد الأطفال على المقاومة لا الدُّمَى، لتجد الطفل يلعب حول حطام منزله الذى قصف منذ يومين، وترى الحبيبة تبكى رفيق دربها لحظة الوداع الأخير. 20 يوما من الحصار والقصف، وأهالى غزة صامدون، يصومون ويقيمون الليل على أصوات القذائف، صفارات إنذار تُدَوّى فى كل مكان، قرابة ألف شهيد منذ العدوان، وجرحى ينازعون الموت، أمهات ثكالى على زهور حياتهن، فهل من منقذ؟! يمر شهر رمضان سريعًا، لكن الموت كان لأهل غزة أسرع، ليأتى عيد دون مُقبل، عيد بلا مُعَيّدين، " وين العيد، فش عنا عيد، بنام أنا وأخوتى مستعدين للموت، أى عيد هذا"؟! كانت آية، إحدى سكان غزة، تسخر من حالهم هذا العيد وتوصف الوضع بالسيء قائلة "العيد لبقية العرب مش لألنا، كيف بنعيد وأحنا كل يوم العشرات منا بيموتوا؟!، مش منتظرين أى عيد". يترنح البيت بسكانه، هذه المرة هى الأقوى رغم بُعد القصف عنهم نسبيًّا، هكذا قالت آية عن القصف الذى شعروا به منذ يومين، وتروى لنا عن العيد فى غزة قبل القصف، "كنا بنروح نشترى لبس العيد ونستنى الصلاة والعيدية، والأطفال يملوا الشوارع ويلعبوا حوالينا، لكن هلا ما فى لبس ولا فى عيد، فى شهداء ودم أخواتنا فى كل مكان". رغم الحصار والقهر، يواظب عمر، البالغ من العمر 13 عاما، على استغلال مجيء الكهرباء فترات قليلة، ليسبق أخوته للعب على جهاز الكمبيوتر الخاص بهم، غير مهتم بما يحدث بالخارج، "لو انقصف بيتنا عمر ما هيسيب الكمبيوتر"، ويكمل إبراهيم، شقيق عمر الأكبر، والطالب بالثانوية العامة، "عيدنا كان يوم ما أسروا الجندى الصهيونى أرون شاؤول، احتفلنا وضرب النار كان بكل مكان، وطلعنا على السطح نتفرج، بدنا يخطفولنا كمان كم واحد عشان نعيد، غير هيك ما هنقبل". وعن نتيجة الثانوية العامة يقول إبراهيم فى أسى" قتلوا فرحتنا بنجاحنا، كنا بنستنى النتيجة فى ظروف أحسن من هيك لكن ما باليد حيلة، وما هنعيد". يركضون هنا وهناك بملابس المنزل فى خوف، لا يدرون إلى أين تكون وجهتهم بعد أن تركوا خلفهم الماضى والحاضر والمستقبل، يهرولون للمجهول، فكثير منهم استشهد والباقى مُشرد، قصفت منازلهم، لتفترش أحلامهم الأرض حطامًا ينزف دمًا غاليًا، فى منطقة الشجاعية، باتت الحياة رمادًا، لتتفرق العائلات كُلٌ عند الأقرب له من أهله فى مناطق بعيدة عن القصف، لتجد المنزل الواحد فى غزة الآن يحوى على الأقل ثلاث عائلات كاملة تفاديًا للأزمة. تحاول أم هيثم الاتصال بإحدى بناتها فى مصر محاولة طمأنتها عليهم بعد أن هُجروا من منزلهم، تقص على ابنتها ما حدث قائلة " والله يا أمى أخوكى هيثم الله اشترى روحه، استشهد 8 أفراد قدامه لما حاولوا يروحوا الحى يشوفوا بيوتهم، -الحمدلله- أنه رجع". ساعات قليلة تفصل غزة عن عيد لن يأتى قبل النصر، حطام يملأ أرجاء الشجاعية، رائحة الموت تعم المكان، حاولوا الوصول لمنازلهم وفقًا لهدنة لن تمحو خطايا العالم فى حق الإنسانية، فى حق غزة، يبحثون عن منازل لم يتبقَّ منها سوى ذكريات، غير باكين على الأطلال، فدائمًا صامدون، بخلاف الوضع فى بلدة خزاعة الحدودية جنوبغزة، التى لم يستطع أهلها من انتشال جثث ضحاياهم بعد، فهناك صهيونى دائمًا يتربص بك، لقنصك.