الرئيس الأميركى باراك أوباما يثبت أنه ليس فى عجلة من أمره لوقف العدوان الإسرائيلى على غزة، ومعلومات تشير إلى عدم تفضيل الجانب الأميركى لإجتياح إسرائيلى برى لغزة والمماطلة بإطالة القصف الجوى. لا ينبىء العنوان بشىء جديد أو مغاير للتحولات التاريخية التى شهدها مسار الصراع العربى - الإسرائيلى على أرض فلسطين. الفارق الساطع هذه المرة هو فى وحدة وصلابة رد المقاومة الفلسطينية الممنهج على مراكز ومقرات ومؤسسات استراتيجية للكيان الغاصب، وأوضح تعبيراتها تجسد فى صعود الفلسطينيين أسطح منازلهم وأكواخهم المتهالكة، للمشاهدة والاحتفال بوصول صواريخ المقاومة إلى أهدافها التى أحدثت الهلع فى أوساط المستعمرين الصهاينة وهم يهرولون للاختباء في أقبية الملاجىء، يرافقهم تصريحات قادتهم الفاشيين يعدونهم "باستئصال شأفة المقاومة"، بعد اضطرارهم فى كل مرة إلى استدارة دباباتهم وفوهات مدافعهم تراجعاً وتقهقراً. جولة جديدة دشنتها اسرائيل بغطرسة وصفاقة واجرام معهود: قيام ذراعها من المستعمرين بخطف شاب عربى واضرام النار بجسده حيا،ً وارسال حمم طائراتها الأميركية الصنع لتدك شعب يرزح بأكمله تحت الحصار فى غزة، فى ظل استمرار حرص السلطة الفلسطينية على العودة للتفاوض واستمرار التنسيق الأمنى، وتسجيل أميركا احتجاجها شفوياً ضد "الجيش الذى يقهر ويذل" لاعتدائه وخطفه شاب فلسطيني آخر صادف حمله للجنسية الأميركية وتعذيبه بمشهد مروع صورته الكاميرا. فى الفضاء الأوسع ، وبعد إقرار للمسؤولين الصهاينة أن قطاع غزة وخلال أيام العدوان الخمسة الأولى المتواصلة تعرض لما يفوق 900 غارة جوية بطائرات أميركية الصنع والذخيرة، وإلقاء حممها بزنة نحو 1000 طن من المواد المتفجرة، وتدمير أكثر من 200 منزل تدمير كامل ونحو 6000 منزل تدمير جزئى، وخسائر بشرية، شهداء وجرحى، تتزايد باضطراد. أمام هذا المشهد كرست الحكومة الأميركية مواقفها العدائية بالوقوف أمام استصدار قرار من مجلس الأمن الدولى يدين العدوان الصهيونى، سبقه تصريحات متكررة لمسؤولين كبار عبرت عن عدم رغبة أو توفر ارادة للتدخل الاميركى بنية وقف العدوان. بل تجاهل الرئيس اوباما المستجدات والتطورات الاقليمية ومضى زائراً يجول فى عدد من المدن الاميركية توسلاً لتبرعات مالية تعين الحملات الانتخابية لمرشحى الحزب الديموقراطى. وبهذا أثبت الرئيس اوباما أنه ليس في عجلة من أمره لوقف العدوان سيراً على خطى أسلافه السابقين واتساقاً مع الاستراتيجية الأميركية المعادية للشعوب المطالبة بحريتها واستقلالها. بل لم يدب فيه الحماس لاستقبال شخصي للعاهل الاردني الزائر، الملك عبد الله الثانى، وارجأ الأمر الى نائب الرئيس جو بايدن ليستضيفه على مأدبة افطار صباحي بأجواء عائلية، مرسلاً بذلك رسالة لمن يعنيهم الأمر أن الظروف الميدانية والسياسية لم تنضج بما فيه الكفاية بعد كى تدخل الولاياتالمتحدة بثقلها لإنقاذ إسرائيل بدافع التهدئة وحقن الدماء. وعليه يستطيع المرء تلمس حقيقة أولويات الرئيس أوباما بالإلتفات إلى حملة تبرعات دشنها منذ أربعة شهور لتعزيز فرص المرشحين عن حزبه الديموقراطى، بعد بضعة شهور، وارجاء القضايا الأخرى ذات الأبعاد الإستراتيجية أبرزها العدوان على غزة. هذا الاستنتاج يعززه نتائج استطلاعات للرأي أشارت إلى تدهور شعبية اوباما وتدنى الأداء الاقتصادى وتهديد ماثل لخسارة الحزب الديموقراطى زعامته لمجلس الشيوخ، وتراجع الاهتمام الرسمى بالشؤون الخارجية بشكل عام. أدرك الرئيس أوباما أخيراً أن معركته لكسب أصوات المستقلين خاسرة كانعكاس لتدهور الحالة الاقتصادية، ويضاعف مهامه ومهام مرشحى حزبه لإدامة لحمة القاعدة الحزبية. ويسعى أوباما جاهدا لبناء تحالف قاعدة انتخابية أوسع امتداداً دلالة على الاستراتيجية الجديدة للبيت الأبيض بالاستدارة لصقل سياسات داخلية. فى الشأن الداخلى أيضاً، تواصلت أزمات الرئيس اوباما بتسديد المحكمة العليا هزيمة إضافية لبرامجه الداخلية واصطفافها إلى جانب أصحاب المصالح الكبرى، التى طالبت بتقييد حرية العامل والموظف التمتع بمزايا نظام الرعاية الصحية تخص توفير وسائل منع الحمل، الأمر الذي قد يترجم انتخابياً بتضخم صفوف العامل النسائى في صفوف الحزب الديموقراطى احتجاجاً على تدخل "السلطات العليا" بأمورهن الخاصة والشخصية. كما استشاط أقطاب الحزب الجمهورى غضباً من سياسة اوباما "المتساهلة" مع موجات الهجرة "غير الشرعية" نحو الولايات الجنوبية المشتركة حدودياً مع المكسيك، واتهامه باسترضاء القاعدة الانتخابية للجالية اللاتينية؛ مع إدراك الطرفين أن تجمعات انتخابية بعينها لا تلعب دوراً مفصلياً فى تقرير النتائج الانتخابية، ولجوء قادة الحزب الديموقراطي إلى فرط الاعتماد على القوى الانتخابية المنظمة، أهمها الجالية اليهودية، التي تتميز بحسن تنظيمها وتعبئتها ومشاركتها الأكبر في الانتخابات من غيرها. والجدير بالذكر أن اليهود يشكلون نسبة تتراوح بين 2 – 2.5% من عموم الشعب الاميركى، تقطن أغلبتهم المطلقة بنسبة 94% في 13 ولاية من مجموع الولايات الخمسين. توزيع أصوات الجالية اليهودية يذهب بغالبيته لصالح الحزب الديموقراطى، تقدر أحدث الدراسات أن 70% منهم يميلون للصف الديموقراطى، مقارنة مع نسبة 49% من عموم الأميركيين يؤيدون الحزب. النسب المذكورة تشير إلى أهمية وحساسية الفوز بأصوات اليهود بالنسبة للرئيس اوباما والمرشحين الديموقراطيين، لا سيما فى الولايات التى تصنف حاسمة: اوهايو وفلوريدا وبنسلفانيا. مرجعية الأصوات اليهودية، فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية بشكل خاص، طرأ عليها بعض التغيرات فى المراحل الأخيرة، وإن لم تكن حاسمة وقاطعة إلا أنها تدل على تعديل بعض المسلمات السابقة لمن يهتم بحسبان الأصوات. وأشارت أحدث استطلاعات معهد "بيو" أن غالبية اليهود ينظرون إلى أنفسهم كمواطنين أميركيين أولاً، واهتمامهم باسرائيل يحتل المرتبة الثانية مع ملاحظة تراجع حدة الانتماء للطائفة اليهودية – وفق استطلاعات "بيو". وأضاف "بيو" أن نحو 71% من اليهود غير المتدينيين يتزاوجون خارج الطائفة اليهودية، ونحو 60% منهم لا يمارسون شعائرهم داخل المعبد. هذه الشريحة بالذات هى التى يراهن عليها الحزب الديموقراطى لاستقطابها، يعززها إعراب 54% من اليهود الأميركيين عن تأييدهم لمدى الدعم الاميركى لإسرائيل. النسبة المتبقية من اليهود، 46%، هي التى يرمى أوباما لاستقطابها فى ظل توارد معلومات بأن قطاعها الأوسع بات يميل لتأييد الحزب الجمهورى سيما وأنها الشريحة الولادة بين اليهود، وبعضها لا يكن تأييداً للرئيس أوباما ويعارض سياساته المتشددة نحو إسرائيل". شريحة الارثوذوكس أو المتدينيين من اليهود هى الأكثر نمواً وتشكل نحو 12% من مجموع الجالية اليهودية في أميركا؛ مع الإشارة إلى أن الجيل الفتى تحت سن الثامنة عشر ويشكل 75% من مجموع اليهود. الجزء الأكبر من هذه الشريحة هو الأميل لتأييد الحزب الجمهورى لدوافع اقتصادية وتجارية بالدرجة الأولى، ويتجمهرون فى المدن الرئيسة. على سبيل المثال، يميل نحو 33% من شريحة الارثوذوكس الكبيرة فى مدينة نيويورك لتأييد الحزب الجمهورى. فى التفصيل أيضاً، اعتبر نحو 40% من اليهود القاطنين مدينة نيويورك انهم من الارثوذوكس، مقارنة بنسبة 33% أجريت قبل نمحو عقد من الزمن. بلغة الاحصاء، إن استمرت تلك الظاهرة بالتصاعد فإن شريحة الارثوذوكس من اليهود ستشكل كتلة متراصة وثابتة الدعم للحزب الجمهورى، نظرا لتأييدهم البرنامج المحافظ للحزب فى الأبعاد الاجتماعية والسلوكية والاقتصادية، والدينية ايضاً. سجل عام 2012 تصويت 86% من اليهود الارثوذوكس لصالح الحزب الجمهوري، مقارنة مع نسبة 28% تأييداً للحزب من غير الارثوذوكس. بالمقابل صوت نحو 72% من غير الارثوذوكس اليهود للرئيس أوباما وحاز على نسبة تأييد 14% فقط من أصوات الارثوذوكس اليهود. يهمنا الإشارة فى هذا الصدد الى التزام شريحة الارثوذوكس اليهود بالسياسة الاسرائيلية كأولوية على ما عداها من قضايا، وربما هذا ما يفسر نأى الرئيس اوباما بالنفس عن الاهتمام بالعدوان على غزة، دون تجاهل البعد الاستراتيجي فى السياسة الأميركية المعادية لقضية العرب المركزية. دور التقنية المتطورة فى العدوان على غزة فى ظرف زمنى قصير لا يتجاوز عشرة أعوام يتعرض قطاع غزة لعدوان إسرائيلي شامل باشتراك أسلحة الطيران والبحرية والمشاة، وتتصدى لها فصائل المقاومة الفلسطينية المختلفة بسلاحى التصميم والارادة البشرية والصواريخ المتواضعة. بل فاجأت بتطور دقتها وعمق امتداداتها الأصدقاء قبل الأعداء. وتدريجياً صعدت المقاومة الفلسطينية تنويع صواريخها بدءاً بقصيرة المدى المصنعة محلياً، وصولاً إلى المديات التى تصل لنحو 160 كلم من طراز 302 سورية الصنع (كما نقلت مجلة الايكونوميست البريطانية واكدتها مصادر المقاومة)، وكذلك الاشد قدرة تدميرية من طراز ام-75 محلية الصنع التي تحمل رأساً متفجراً بزنة 100 كلغم، استهدفت منطقة مفاعل ديمونا وتل الربيع. تصدت "القبة الحديدية" لعدد محدود من الصواريخ التى أصابت اهدافاً فى عمق فلسطينالمحتلة، امتداداً من المستعمرات المحيطة بقطاع غزة ووصولاً إلى حيفا ومروراً بتل الربيع والخضيرة، ولم تسلم القدسالمحتلة من دقة التصويب. بل أصابت مطار اللد، ومطار بن غوريون، للمرة الأولى فى تاريخ الصراع العربي الصهيوني مرات أربع. إعتاد الكيان الصهيونى على المفاخرة بفعالية القبة الحديدية، بل المبالغة المفرطة فيها بالزعم انها تراوحت بين 84 و 90% من الدقة. الأرقام الصادرة عن هيئاته العسكرية والرسمية تدحض ذلك. فى مطلع اليوم الخامس للعدوان، أوردت وكالة "أ ب" الاميركية للأنباء أن مجموع ما أطلقته المقاومة الفلسطينية من مختلف الاعيرة بلغ 420 صاروخاً اعترضت "القبة الحديدية" 90 صاروخاً. أى ما يعادل 21%. فى اليوم الذى سبقه، أوردت الأنباء إطلاق 117 صاروخاً اعترضت "القبة الحديدية" 19 صاروخاً؛ اي نسبة 16%. نشرت إسرائيل 7 بطاريات صواريخ للقبة الحديدية بالمنطقة المحيطة مباشرة بقطاع غزة، ورغم كثافتها فإن اداءها كان بالغ التواضع وفق الارقام الرسمية المنشورة، فضلاً عن الكلفة العالية للبطارية (50 مليون دولار) وصواريخها (40،00 – 100,000 دولار). واستدعت أيضاً 40،000 من جنود الاحتياط للخدمة الفعلية دلالة على نواياها بإطالة أمد العدوان لكن قادتها من سياسيين وعسكريين يترددون في اتخاذ قرار الاجتياح البرى الذى يلوكونه يومياً فى ظل مناخ تبادل الاتهامات بين قادة الأجهزة الاستخباراتية والعسكرية، لشح وفشل جمع المعلومات عن أسلحة ومواقع المقاومة. فى الشق الأميركى، الانتظار والترقب يلازم الحركة السياسية مع رشح معلومات عن نقاشات داخلية عالية المستوى تشير إلى عدم تفضيل الجانب الاميركي لاجتياح اسرائيلي برى، فى الوقت الراهن، والمماطلة بإطالة القصف الجوى لإلحاق أكبر قدر من الخسائر البشرية طمعاً فى تبلور معطيات مغايرة عما تنبىء به النتائج الميدانية، فى ظل تعطيل حركة الملاحة المدنية فى مطار اللد وخضوع ما لا يقل عن 3 ملايين مستوطن يهودى فى أقبية الملاجىء.