حتى الآن لم يصدر أي موقف رسمي من الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما تجاه منطقة الشرق الأوسط، وأي شكل سوف تكون عليه سياسته الخارجية تجاه قضية الصراع العربي الإسرائيلي. وكل ما يتم تسريبه إما تكهنات أو توصيات يتم إطلاقها من هنا وهناك لعلها تجد صدى لدى أوباما وفريقه الانتقالي. بل يشير اختيار هيلاري كلينتون، وزيرة للخارجية، إلى صعوبة توقع حدوث اختراقات حقيقية في ملف السلام. وتشهد واشنطن الآن تسابقًا محمومًا بين مراكز الأبحاث من أجل وضع تصورات عامة للرئيس أوباما، بحيث يمكنه النظر إليها عند وضع سياسته الشرق أوسطية. ونكاد نلحظ وجود تمايز بين خطين رئيسيين، أولهما يريد الحفاظ على نفس النهج السياسي للرئيس بوش وإدارته الجمهورية، ويمثله معاهد مثل معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى. وقد عقد المعهد سلسلة لقاءات وندوات مؤخرًا حاول فيها وضع تصوراته لكيفية تعاطي أوباما مع الصراع العربي الإسرائيلي. أما الخط الثاني فيسعى لتغيير دفة السياسة الأميركية تجاه الصراع، واعتماد سياسة أكثر واقعية وبراجماتية. ويمثل هذا التيار معهد بروكينجز للأبحاث. وقد عقد المعهد سلسلة من اللقاءات خلال الأسابيع القليلة الماضية سعى فيها لوضع رؤية شاملة لكيفية تعاطي أوباما مع قضايا المنطقة خاصة قضية الصراع العربي الإسرائيلي. ولعل ما يلفت النظر أننا أصبحنا أمام ما يشبه "سوق عكاظ" للسياسة وليس الشعْر، حيث يدلي كل طرف بدلوه وفقًا لأجندته وآيديولوجيته الخاصة. بيد أن ما تطرحه مراكز الأبحاث التي تميل أكثر نحو اليسار الديمقراطي يبدو أكثر واقعية وبراجماتية من تلك التي تصدر عن يمينيين ومحافظين جدد. ويبدو أن معهد "بروكينجز" أقرب للقيام بدور مؤثر في صياغة تصورات السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط خلال السنوات الأربع الماضية. وقبل أيام قليلة عقد المركز حلقة نقاشية مهمة شارك فيها مارتن إنديك، السفير الأميركي لدى إسرائيل إبان عهد كلينتون، وريتشارد هاس، مدير مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك وأحد أبرز مخططي السياسة الأميركية خلال السنوات العشر الماضية. وهما قد نشرا مؤخرًا دراسة مهمة في دورية "فورين أفيرز" يطرحون فيها رؤيتهم لكيفية تعاطي الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما مع منطقة الشرق الأوسط. بداية يشير إنديك وهاس إلى أن أوباما بحاجة إلى استراتيجية جديدة تمامًا في الشرق الأوسط، وهي بالنسبة لهما لا بد وأن تنطلق من ثلاث نقاط، أولها العود إلى نهج "الدبلوماسية" وتطليق نهج القوة في التعاطي مع أزمات المنطقة. وهنا يرى الخبيران البارزان أنه لا بد من إشراك الأطراف الدولية في إدارة قضايا المنطقة وعدم التفرد بها حتى لا يزداد تورط الولاياتالمتحدة بالمنطقة. ثانيها ضرورة إقامة قدر من التوازن بين مبادئ الولاياتالمتحدة ومصالحها في المنطقة. وهو ما يعني ضرورة دعم أجندة الحريات والديمقراطية في المنطقة ولكن بما لا يؤثر على المصالح الاستراتيجية الأميركية في المنطقة. وهو ما يمكن تحقيقه من خلال اعتماد استراتيجية طويلة المدى وفعالة لدعم الديمقراطية وتشجيع مؤسسات المجتمع المدني في العالم العربي. وثالثها تبني مبادرة السلام العربية كمنطلق لتحقيق السلام في المنطقة. وهنا يؤكد إنديك وهاس على ضرورة عدم التفريط في خيار الدولتين والعمل بكافة الطرق على إنقاذه وتحقيقه واقعيًّا. بيد أن أغرب ما قرأته خلال الأيام القليلة الماضية حول هذا الموضوع كان لأستاذ العلاقات الدولية بجامعة شيكاغو "جون ميرشايمر"، مؤلف الكتاب الشهير عن اللوبي الإسرائيلي في أميركا، مع ستيفن والت، الذي اقترح أن يسعى الرئيس أوباما إلى استحداث استراتيجية جديدة أطلق عليها "ميرشايمر" اسم "استراتيجية التوازن عن بُعد"، وهي تقوم على محاولة إقامة توازن في المنطقة من خلال تشجيع أطراف إقليمية على تخويف بعضها البعض، وإقامة توازن بينها وذلك على غرار ما كان الحال قبل إسقاط نظام صدام حسين الذي كان يمثل رادعًا قويًّا لإيران. وهي استراتيجية غريبة تعني ضمنًا تدشين نوع من الحرب الباردة الإقليمية بين القوى الموجودة حاليًّا وأهمها إيران وإسرائيل وتركيا وسوريا. وينطلق "ميرشايمر" في مقترحه من فشل استراتيجية "الاحتواء المزدوج" التي اتبعها الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون إزاء إيران والعراق، وفشل استراتيجية "التغيير بالقوة" التي اعتمدها الرئيس الحالي جورج دبليو بوش. وهو يقترح أن تقوم الولاياتالمتحدة بدور "المراقب" للتوازن الإقليمي وعدم التدخل لمصلحة طرف أو آخر إلا عندما يقع تهديد جاد للمصالح الأميركية في المنطقة. وهي استراتيجية ليست جديدة، وإنما تمت تجربتها إبان الخمسينيات والستينيات ولم تؤتِ ثمارها حيث سقطت معظم الدول العربية في براثن الاشتراكية وانحازت للاتحاد السوفيتي مقابل الولاياتالمتحدة. وبغض النظر لأي المقترحات سوف ينصت باراك أوباما، إلا أنه من العسير توقع حدوث تغيّرات جذرية في نظرته للمنطقة وسياسته تجاهها، وتظل إرادة أطراف الصراع هي المحرّك الرئيسي لأي عملية سلام قد تحدث خلال السنوات الأربع المقبلة، وهو ما أشك في إمكانية تحققه.