يلاحظ المراقبون توجها اميركيا "مزدوجا" نحو سوريا في الاونة الاخيرة، خاصة بعد خطوات "الاعتدال" السورية تجاه اسرائيل وفي لبنان وغير ذلك. وادى ذلك الى تحليلات متباينة بعضها يرى ان واشنطن تعمل على احتواء سوريا بهدف عزلها عن ايران وتسهيل اقترابها من اسرائيل، فيما يرى البعض الاخر ان الخطوات السورية من مفاوضات غير مباشرة مع اسرائيل برعاية تركية وتسهيل تسوية سياسية في لبنان قاربت دمشق مع فرنسا لم تحقق المرجو سوريا من رضا اميركي تام عن دمشق. بل يذهب البعض الى تفسير اي بادرة اعلامية من قبيل لقاء وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس مع نظيرها السوري وليد المعلم الشهر الماضي على هامش الجمعية العامة للامم المتحدة بانها لا تتجاوز محاولة اميركية لمواجهة تقارب سوري روسي ربما يؤدي الى وجود عسكري قوي لموسكو في شرق البحر الابيض المتوسط. لكن بالنظر الى الجانب العملي من السياسة الاميركية نجد انه لا تغير كبير هناك، فقد عملت واشنطن على حشد دول اوروبا وبعض دول اسيا وافريقيا واميركا اللاتينية لمنع سوريا من الترشح لمقعد في مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو المقعد الذي حصلت عليه افغانستان ممثلة لآسيا. كما ان واشنطن اعترضت على تصريحات مدير عام الوكالة التي قال فيها انه لا يوجد دليل على مواد نووية في الموقع السوري الذي قصفته اسرائيل العام الماضي وتصر اميركا على انه كان موقعا لمفاعل نووي سري. وطلبت واشنطن تقريرا من الوكالة عن مهمة فريقها الذي زار الموقع والعينات التي حصل عليها وحللها. ولم يفت الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش الذي يوشك ان يرحل عن البيت الابيض ان يجدد قبل ايام اتهامه لسوريا وايران بانهما يدعمان الارهاب. وبغض النظر عن الموقف من سوريا وقيادتها، يتعين هنا رصد عدة ملاحظات ربما تكون حكمت تطور النظرة الاقليمية والدولية للدور السوري ورد فعل دمشق على ذلك وما اسفر عنه حتى الان. ومن المهم هنا الاشارة الى ان ما يحكم الوضع الاقليمي في المنطقة بكل تفاصيله هو ما يجري في بقعتين محتلتين فيها: فلسطين والعراق. وقد لا يجادل كثيرون في ان المنطقة اصبحت سواء نتيجة ضعف ذاتي لسكانها وقياداتهم، او نتيجة عوامل اخرى ساحة للفعل الاسرائيلي والاميركي بالاساس وما يحيط به هو مجرد توابع تكمله تقاطعا او تعاونا او تورطا. والحقيقة انه رغم كل التغطيات الاعلامية (الاعلانية) الايجابية جدا لاوضاع الاحتلالين فان الاميركيين في العراق والصهاينة في فلسطين في وضع ليس بالجيد على الاطلاق. فالهدف الاميركي من احتلال العراق، وهو جعله نموذجا للتغيير (الاميركي/الاسرائيلي) في المنطقة لم يؤت اؤكله بعد خمس سنوات من الغزو. كما ان قدرة الاحتلال الاسرائيلي على تأمين نفسه وتحسين اوضاعه اصيبت بضربة قاصمة من حزب الله اللبناني عام 2006، ولا يزال قطاع غزة يمثل له صداعا رغم سحب قوات الاحتلال منه كما ان تسوية سريعة مع سوريا تضمن وجودا عسكريا صهيونيا دائما في مرتفعات الجولان لم تتم. ولحرف الاهتمام بعيدا عن الاحتلالين لا بد من "شيطنة" اخرين وتحميلهم مسؤولية فشل القوة العسكرية الطاغية في تحقيق اهداف تحويل المنطقة الى ساحة هيمنة اسرائيلية كاملة في اطار الاهداف الاستراتيجية الاميركية. ووفرت ايران، بمشروعها النووي وطموحاتها الاقليمية في العراق والخليج، مبررا مناسبا لشيطنتها اميركيا. وان كان الموقف الاميركي من طهران يسبق كل تلك التطورات، الا ان تصعيده في السنوات الاخيرة كان القصد منه ان يكون تبريرا لفشل الغزو والاحتلال في تحقيق اي اهداف. اما اسرائيل فهي تحتاج لشيطنة طرف مجاور يمكن تصويره على انه سبب كل مشاكل المنطقة لتبرير الفشل في تحقيق الاهداف الاسرائيلية، الا وهو سوريا وان تضامنت بقوة مع واشنطن في الموقف من ايران، فلانها بحاجة لجهود واشنطن في الموقف من سوريا. ولا يمكن تجاهل الدور الذي لعبته بعض القوى الاقليمية المحلية في "شيطنة" سوريا وتصويرها على انها العدو وليس اسرائيل واميركا. في مواجهة ذلك سعت دمشق للمناورة، حينا بالتعاون مع الاميركيين لدرء الاتهامات بانها تفتح حدودها لعبور المسلحين المناوئين للاحتلال والقوات العراقية وحينا بالابتعاد التكتيكي عن طهران خاصة في قضايا من قبيل الوضع في لبنان او المفاوضات مع اسرائيل. وتدرك دمشق، رغم تحالفها مع طهران، ان البراجماتية الايرانية قد تؤدي في اي لحظة الى تعاون ايراني اميركي اسرائيلي يفقد دمشق اي اوراق محاولاتها استعادة اراضيها المحتلة من قبل الصهاينة. من هنا كان التقارب السوري الفرنسي عبر لبنان، والاستفادة من العلاقات التركية الاميركية في التفاوض غير المباشر مع اسرائيل. الا ان كل ذلك لم يؤد حتى الان الى نتائج ملموسة، ولا تزال قوى الاحتلال الاميركي والاسرائيلي تسعى لحل مشاكلها دون اتفاقات حلول وسط وانما عبر اجبار الاطراف الاقليمية على تحمل نتائج فشلها ودفع فواتير تنظيف مخلفاتها دون الحصول على اي مقابل. وهكذا قد تجد سوريا نفسها مضطرة للمشاركة في طابور المعتدلين العرب دون ان تحصل على اي مقابل ذي معنى. وستكون الورطة حينئذ من نصيب اصدقاء اميركا الذين عملوا على شيطنة سوريا، ما لم يحدد لهم الاميركيون والاسرائيليون بلدا عربيا اخر هدفا للشيطنة.