مشروعة دون ريب مطالب العمال والموظفين التي تفجرت في فورة جامحة وشاملة في أرجاء مصر, وذلك بعد أن حطمت ثورة25 يناير حاجز الخوف, وأطلقت تطلعات لا سقف لها, وأسقطت هراوة قمع الكفاح المطلبي. وأطاحت بزواج المتعة بين السلطة والثروة. وفي كبح جماح المطالب الفئوية الاجتماعية والاقتصادية في أعقاب الثورة, لا تصلح وسائل القمع ولا أساليب الوعظ, ولا ينفع مجرد سرد أرقام الخسائر الاقتصادية للمؤسسات, ولا مجرد شرح ما تنوء به موازنة الدولة من أعباء, ولا مجرد وعد الثورة بمحاسبة ومحاربة الفساد. وفي المدي المباشر, ينبغي علي الإدارة في المؤسسات العامة والخاصة أن تدير حوارا مفتوحا وصريحا مع المحتجين, يستهدف الاستجابة للمطالب الممكنة ورفع المظالم الجماعية ودراسة المظالم الفردية. ولا جدال أن تحقيق أقصي عدالة في توزيع الدخول لن تترتب عليها تصفية أسباب الشكوي, وإنما مجرد عدالة توزيع الفقر! مهما تم تقليص الفجوة بين الحد الأدني والحد الأقصي للدخول. لكن من شأن تحقيق الممكن من أجل رفع الحد الأدني للدخول ومن ثم تقليص فجوة الدخول- في إطار الموارد المتاحة, وعلي أساس ربط الدخل بالانتاج- أن يزيل الإحتقان الكامن الذي فجرته الثورة علي نطاق غير مسبوق في أرجاء مصر. ومن منظور المستقبل المنشود, فإن العدالة الاجتماعية لن تتحقق بغير رؤية تستهدف خلق تيار أساسي في المجتمع المصري يدفع في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة نحو انتخاب رئيس وبرلمان علي أساس برامج تجمع بين رؤية واضحة لتصفية أسباب فقر المشتغلين, وإدراك لحتمية المسئولية المجتمعية للرأسماليين, وتسليم بحقيقة سقوط الأصولية الإشتراكية وبعدها الأصولية الرأسمالية, وتعلم من درس التاريخ بأن إقتصاد السوق الحرة شأن إقتصاد الأوامر المركزي لم ولن يحقق لا الكفاءة الاقتصادية ولا العدالة الاجتماعية, ويقين بأن محاربة الفساد لا تعني محاربة الاستثمار وإنما السبيل القويم لتشجيع الاستثمار الإنتاجي المنشود. وكما كتبت في مقالي مكافحة الفقر تكون بتصفية أسبابه, المنشور في جريدة الأهرام بتاريخ7 سبتمبر2008, أشير الي مأثور قول الإمام علي بن أبي طالب, كرم الله وجهه: لو كان الفقر رجلا لقتلته! وقلت إن الفقر مثل الإرهاب, ينبغي القضاء عليه باقتلاع جذوره. وكما أن الجذر الأول المفرخ لجنود الإرهاب ينبت من فكر منحرف عن مقاصد العقيدة, يدفع قادته للدعوة إلي قتل من يتصورونه أعداء تفسيرهم للنص الديني, فإن الجذر الأول المولد للفقر المعاش ينبثق عن فكر منحاز لمصلحة الأغنياء, يقوده منظرو الاقتصاد الحر ويدفع الي مضاعفة الفقر المطلق والنسبي لغالبية المشتغلين! وأعلنت أن ما أعلن أنه استهداف للمناطق والسكان الأشد فقرا, شأن استهداف جماعات وبؤر الإرهاب, ليس في حال حسن القصد والنية سوي مجرد إسعاف أولي, لا غني عنه لوقف نزيف الضحايا من الفقراء والقتلي, لكن إقتلاع جذور الفقر والإرهاب ضرورة لحفظ الكرامة والحياة. والأمر أن تكريس وتعميق الإحساس بالفقر يرجع بالأساس الي عدم كفاءة النظام الاقتصادي, في اقتصاد الأوامر المركزي الإشتراكي; الذي لم يتعد حصاده توزيعا عادلا للفقر, لأنه تجاهل أن الاقتصاد ينبغي أن يكون اقتصاديا, بمعني ترشيد استخدام الموارد النادرة لإشباع الحاجات المتزايدة, وبمعني إعلاء معايير الكفاءة والانتاجية وربحية مؤسسات الأعمال المملوكة للدولة! كما جري تكريس وتعميق الإحساس بالفقر نتيجة عدم كفاءة النظام الاقتصادي في اقتصاد السوق الحر الرأسمالي, لما ترتب عليه من عدم كفاءة استخدام الموارد من منظور المصلحة العامة وإن تعاظمت الثروة الفردية للقلة, وما قاد إليه من: إحتكار يقتل المنافسة, واختلال في توزيع الثروة والسلطة, وفرض لأسعار غير عادلة وغير مبررة, وتهديد للاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي نتيجة تفاقم البطالة والكساد والفقر, وإهدار للحكم الرشيد وحقوق المواطنة. وكما تبين دروس التعلم الإيجابي من الدول الصناعية التي حققت التقدم الاقتصادي والرفاهة الاجتماعية في العالم حولنا, من آسيا إلي أمريكا مرورا بأوروبا, فإن نظام اقتصاد السوق الاجتماعي, الذي يجمع بين ضرورات الكفاءة الاقتصادية ومقتضيات العدالة الاجتماعية, هو ما جنب المجتمعات مخاطر وخسائر الثورة الاجتماعية, وتمكن من اقتلاع جذور الفقر! وفي هذا السياق, ينبغي إدراك أن تفسير الفقر يكمن في عوامل أهمها: إهدار المسئولية الاجتماعية والأخلاقية لرجال الأعمال بسعيهم لتعظيم أرباحهم الخاصة علي حساب ربحية المجتمع, وتجاهلهم للمصالح المشروعة لجميع الأطراف المتأثرة بالمشروع من المستهلكين والمنافسين وغيرهم. والفقر نتاج منطقي لتبديد الإدخار الممكن بنزعة الاستهلاك المفرط, وتشوه توزيع الاستثمار بغلبة التوظيف غير الانتاجي والعقاري الترفي علي حساب الاستثمار الانتاجي, وتكريس تضارب المصالح بتزاوج الثروة والسلطة. وأما انفلات الفساد والانفجار السكاني فكلاهما نتيجة وسبب للفقر, بتبديد وابتلاع الموارد اللازمة للاستثمار. ومن منظور تطور الفكر الاقتصادي لمكافحة الفقر يوفر جون كينيث جالبريث مرجعا ثمينا في كتابه تاريخ الفكر الاقتصادي..الماضي صورة الحاضر, يسجل فيه أن رأسمالية الاقتصاد الحر وجدت في توحشها من المنظرين من حمل الفقراء أسباب بؤسهم وحرمانهم. وكان هربرت سبنسر, منظر الفردية وصاحب العبارة الخالدة البقاء للأصلح, يري أن الدولة لا ينبغي أن تتدخل لتصحيح التفاوت الاجتماعي وتخفيف الشقاء! ويلاحظ جالبريث أن هذه الداروينية الاجتماعية لا تزال تظهر حتي اليوم في: المقاومة الشديدة لقيام الدولة بدور في حماية الضعفاء, والزعم بأن: الفقر ثمرة إفراط الطبقات الدنيا في الإنجاب مع تجاهل أثر التنمية علي ضبط النسل! وأن الإحسان يضر ولا ينفع, وأن رجل الاقتصاد لا يعني بالعدالة أو بالرحمة, وأن الحديث عن الظلم الاجتماعي أمر دخيل علي الاقتصاد! ويبين جالبريث أن مخاطر اختلال توزيع الدخل تزيد حين تحبط آمال الفقراء في تحسين حياتهم, ليس بالمقارنة مع ما كان يوجد لديهم من قبل, بل بمقارنة الفرق المفزع بين أجورهم ومستويات معيشتهم البائسة وبين دخول ومستويات استهلاك الأغنياء أرباب الأعمال. ثم يطرح جالبريث علي أسئلة ترددت ألف مرة: هل كان بالإمكان منع الثورة أو استباقها لو نفذت مطالب الإصلاح؟ ولماذا قاومت دوائر الأعمال سياسات الإصلاح الهادفة الي حماية النظام الاقتصادي؟ ولماذا تنظر إلي الاصلاحيين علي أنهم أعداء للنظام القائم؟.. ويرد مؤلف تطور الفكر الاقتصادي بأن الأثرياء وذوي الامتيازات, عندما يكونون فاسدين وعديمي الكفاءة, لا يقبلون الإصلاح الكفيل بإنقاذهم! ويرفضون التنازل عن المباهج والرفاهة في الأجل القريب تجنبا للأهوال والكوارث في الأجل البعيد! ويستمتعون بالكسب في مباراة يخسر فيها الكثيرون! ويخلص إلي أن نظام السوق الحرة لم يعد مقبولا, وأن الاشتراكية تراجعت كبديل محتمل, وذلك قبل أن تنهار بعد نشر كتابه!