في كثير من الأحيان تصيب ردود أفعال بعض القراء الكاتب ب الدوار, من فرط غرابتها وبعدها المتناهي عن الموضوع الذي كتب فيه, كما لو أن اللغة العربية قد سكن حروفها فيروس خطير, أفسد معانيها عندما تتشكل في كلمات وعبارات, وتتحول بقدرة قادر إلي المثل الشهير: نقول ثور يقولوا احلبوه! وقد يندهش الكاتب إلي درجة الذهول ويضرب كفا بكف: كيف لحاملي الشهادات العلمية والتي يسبق اسم بعضهم حرف الدال الفخيم أن يسقطوا في نفس الفخ الذي يسقط فيه بسطاء المتعلمين؟ أين الخطأ؟ في الأسبوع الماضي كتبت عن النظام العام في أي مجتمع وكيف يتغير ويعاد بناؤه, وقلت إن أي نظام يقوم في الأساس علي مجموعة قوانين تضبط أنشطة البشر وتصرفاتهم داخل حدود الدولة, وأن الدستور هو أبو القوانين, ولا يمكن بناء نظام جديد دون تغيير الدستور أولا, يعقبه تعديل أغلب القوانين بما فيها قانون العقوبات, ليعاد صياغتها وفق القواعد الدستورية الجديدة.. السيد بشر كتب معلقا علي كلامي قائلا( مع تصحيح الأخطاء الإملائية الفاحشة): الواضح أن النخبة والمدعين لم يفهموا الدرس بعد والمهم سؤال أرجو الاجابة عليه كيف يرضي بكم الشعب أن تتحكموا في مصيره وأنتم تصفونه بعدم الفهم وأنهم قطيع غنم ولا يقدرون اختيارهم, يا ناس إرحموا الناس فلقتونا بالكلام عن الديمقراطية, ولكن الواضح أن الديمقراطية عندكم هي ما يتناسب معكم وعلي هواكم وليس الحكم للشعب!. بالطبع مستحيل أن تكون هناك علاقة من أي نوع بين ما كتبت ورد السيد بشر.. لكن السيد بشر كان رحيما ولم يتهمنا بأننا نحاول تشويه التيارات الاسلامية كما فعل أبو عمر المصري.. أبو عمر اقترب نسبيا من الفكرة لكنه فهمها بطريقته الخاصة وكتب: هل المشكلة مشكلة الدستور, طيب كان عندنا دستور ومع عيوبه لم يكن يطبق وكان يضرب به عرض الحائط وغيروه علي هواهم, المشكلة مش في الدستور, المشكلة في أمخاخ الناس.. وعايزة تتغير, كل الذين ينادون بالدستور عارفين ان مش هي دي المشكلة ولكن عايزين يضيعوا وقت ويأخروا الانتخابات حتي تتاح لهم الفرصة لتشويه التيارات الاسلامية لكي يحصدوا أكبر قدر من التورتة! وأبو عمر مارس معنا لعبة خطيرة, فهو يعترف بأن الدستور السابق فيه عيوب, ولا يطبق, ولا يري أي علاقة بين الاثنين.. مع أن العلاقة تخرق عين الشمس, فالدستور السابق كانت به ثغرات يمكن أن يمر منها الفيل أبو زلومة.. وهذا النوع من الدساتير يحمل في بنيته أساليب تعطيله وإعاقته عن العمل الفعال, بالرغم من وجود مواد تنص علي قيم إنسانية رفيعة في الحرية والعدالة. وأغفل أبو عمر عمدا أن يفسر لنا كيف يمكن للانتخابات أولا أن تصحح عيوب الدستور أو تلتزم بتطبيقه.. وعموما الانتخابات مجرد إجراءات في العملية الديمقراطية لا أكثر ولا أقل, أما الدستور فهو الذي يحول الديمقراطية إلي حياة علي أرض الواقع.. كما فعل الأمريكان علي سبيل المثال بعد الثورة الأمريكية, فقد وضعوا وثيقة الدستور ثم انتخبوا مجلس الشيوخ, لأن القواعد هي التي تنظم التصرفات وتتحكم فيها.. أما حكاية الخوف من التيارات الاسلامية أو تشويهها, فهي عبارة عاطفية الغرض منها إثارة العداء والتربص.. ويبدو أن أبو عمر حسب تعبيراته خائف علي التورتة التي يتصور أنه وجماعته قد حصلوا عليها فعلا.. كما لو أن مصر فريسة والشاطر من يلهف منها الجزء الأكبر! أما الأستاذ عبد الرحمن علي فقد صنع خلطة عجيبة من أفكار ليست لها علاقة بالموضوع من أساسه كما لو أننا في خناقة أو شجار شخصي وقال إن: المتحدث الرسمي باسم الحكومة البريطانية استغرب خوف بعض الأحزاب المصرية من الانتخابات وقال إن سيئات الحرية أفضل من حسنات الاستبداد, وإن النجاح المذهل لاستفتاء91 مارس برهن علي أن المخاوف الأمنية من الانتخابات وهمية, وإن مصر تصنع الآن تاريخا جديدا للمنطقة.. ويضيف عبد الرحمن للأحزاب الكرتونية والقوي السياسية المغمورة أن الشعب قال كلمته في الاستفتاء ولن يتراجع عنها, وواضح أنكم لم تفهموا الدرس وتريدون لطمة أخري وسوف تكون إن شاء الله في الانتخابات البرلمانية القادمة التي لن يتنازل عنها الشعب, ومهما علا صوتكم ونحيبكم فان الشعب يعرف مصالحه جيدا, ولا يريد وصاية من أحد وبخاصة العلمانيون والليبراليون والملحدون وكارهو الاسلام! تخيلوا أن الذين ينادون بأن الدستور أولا من الكارهين للإسلام ومن الملحدين, بينما المؤمنون هم الذين يتمسكون بالانتخابات أولا, ولا أعرف من أي مصدر استقي السيد عبد الرحمن هذا الرأي, وهل هو اجتهاد خاص أم فتوي من شيخه أو داعيته أو مرشده.. والأكثر دهشة أنه يرفض الوصاية علي الشعب, مع أن المقال لا يمس الشعب ولا يحاول لا من قريب أو بعيد أن يفرض وصاية عليه, بل يفسر دور الدستور في تكوين النظام العام.. وعلي العكس تماما يتحدث السيد عبد الرحمن باسم الشعب بجرأة نحسده عليها, دون أن يشهر في وجوهنا التوكيل الرسمي الممنوح له من الشعب.. وفي النهاية يسألنا الدكتور أحمد الجيوشي بتهكم وسخرية: وما هو المطلوب في الدستور الجديد يا أستاذنا؟ لم يقل لنا الكاتب أو غيره ممن يطالبون بالدستور أولا ما هي المواد التي علينا تعديلها في الدستور الحالي, أو ما هو الأساس أو التوجه الذي يجب تغييره فيه والذي يجعل من الدستور الجديد واجبا قبل الانتخابات, نحن لا نقرأ الا كلاما مرسلا لا جديد فيه, كلاما يدغدغ مشاعر الثوار دون أن تكون له حجية, لم تكن المشكلة أبدا في الدساتير ولا في القوانين, وإنما في تطبيقنا العادل لها, وهذا لم يتغير ولن يتغير خاصة بعد قراءة مقالتك اليوم ومقالات باقي العلمانيين, فأحادية التوجه لا يمكن أن تصل بنا إلي أي مكان, وأنتم في ذلك متطرفون أكثر حتي من الإخوان المسلمين! هذا كلام يصعب الرد عليه, فقد وصف الكاتب بأنه متطرف جدا لأنه يشرح ويفسر فكرة معمول بها في تاريخ البشرية منذ بدء الخليقة إلي الآن, والأصعب أن يقترح منفردا المواد المراد تعديلها, كما لو أنه ولي أمر الشعب, بينما المطلوب هو دستور جديد نتوافق عليه جميعا ولا تستأثر به فئة ولا جماعة ولا تيار ولا حزب.. عموما هذه عينة بسيطة من حوار وتفاعل بين الكاتب والقراء, لكنه تفاعل خارج الملعب أو في مالطا, فما الذي يجعل كلمات مباشرة وصريحة تنحرف عن معناها الواضح؟! هل هذا جزء من أزمة المجتمع؟ أظن هذا! نقلا عن جريدة الأهرام