كان الفنان الفرنسي "كامي بيسارو" من ألمع فناني القرن التاسع عشر الذين شاركوا في تغيير الاتجاه الفني عن طريق الخروج إلي الحدائق والحقول والمناطق الخلوية للرسم بعد أن كان الاتجاه السائد هو الرسم داخل المراسم.. ولكن لوحاته تعرضت للتدمير خلال الحرب بين فرنسا وألمانيا عام 1870. وهي تسمي في تاريخ أوروبا "الحرب السبعينية". وفي عام 1869 نقل مرسمه إلي قرية بالقرب من الحدود الفرنسية- الألمانية. واستمر في عمله الذي أصبح ودقيقاً وكانت حساسيته بالمنظر الطبيعي واضحة. في عام 1870 أعلن "بيسارو" أنه حذف اللون الأسود من مجموعة ألوانه وأنه كف عن استخدامه تماماً علي اعتبار أن ما يصل إلي عين المشاهد هو أضواء. بينما اللون الأسود يمثل الظلمة أو اللاضوء أو اللالون. وهكذا اقتصرت ألوانه علي الأحمر والأصفر والأزرق ومشتقاتها المباشرة علي اللوحة. ولكن ما هي إلا شهور حتي قامت "الحرب السبعينية" فهرب بيسارو إلي انجلترا تاركاً مرسمه الذي حوله الألمان إلي محل للجزارة وكانوا يستخدمون لوحاته -علي مايروي- في لف اللحوم وفرض الأرضية القذرة. وهكذا ضاعت 1500 لوحة من أعماله في تلك المرحلة المبكرة الهامة. ولم يعثر بعد عودته إلا علي 40 منها استطاع انقاذها. ولكنه في انجلترا التقي بزميله "كلود مونيه" الذي كان هارباً من الحرب مثله وسعدا بهذه الصحبة في زيارة المتحف والرسم في الهواء الطلق واكتشافهما للفنانين الانجليزيين "جون كونستايل" و"تيرنر" اللذين تميزت أعمالهما بالاهتمام الشديد بالأضواء في الطبيعة. ورسمها من خلال ألوان مباشرة بغض النظر عن واقعها الشكلي المعروف. وعندما استقرت الأحوال في فرنسا واستولي الجمهوريون علي مقاليد الحكم واستقرت الأحوال في البلاد. عندئذ أخذ الرسامون يعودون الواحد تلو الآخر إلي باريس وضواحيها. وعاد "بيسارو" إلي إقامة مرسم جديد في قرية "بونتراز".. وهناك جمع حوله مجموعة من أصدقائه الفنانين الذين اشتركوا سوياً في عام 1874 في المعرض الأول لجماعة الثائرين. إن فن "بيسارو" يمثل بحق تاريخ المذهب التأثري في الرسم. كما كان رقيقاً مع زملائه ومعاوناً لهم في الضيقات. وكان أشد الثائرين تواضعاً وتفتحاً للجديد حتي انه عندما بلغ سن السادسة والخمسين أقبل في حماس الطفل علي تعلم أسلوب الفنان الشاب "سيرا" لينهج علي منواله. وهكذا اتبع الأسلوب التنقيطي أو التقسيم أربع سنوات كاملة.. وهذا الأسلوب يقوم بتحليل ما يشاهده الفنان في الطبيعة من ألوان إلي عناصرها الأولية المتمثلة في ألوان الطيف. وبدلاً من خلطها قبل وضعها في مكانها علي اللوحة أخذ يضعها مباشرة علي السطح في شكل لمسات صغيرة أو نقط متجاورة حتي تتولي عين المشاهد عطية مزجها عندما ينظر إليها من بعيد. ولا يكتشف أنها مفككة محللة إلا إذا اقترب من الشكل وأمعن في تفاصيله النظر. وكان من شأن هذا الأسلوب التنقيطي أو التقسيمي أن يكسب الألوان مزيداً من التألق والنضارة والإبهار. ولكنه عندما بلغ سن الستين أدرك أن هذا الأسلوب العلمي لا يتمشي مع طبيعته لأنه بكيت عواطفه وضعه من التمييز التلقائي عن أحاسيسه المباشرة. لكنه استفاد أكبر الفائدة من هذا التدريب. فقد تميزت لوحاته التي رسمها بعد هذه المرحلة بألوان أكثر صفاء وبنيان أشد صلابة وأكثر تحديداً من تلك التي رسمها قبل اعتناق التنقيطية. ولم يكن "بيسارو" شديد التعلق باقتناس رعشات الضوء وحركته. وتغيير ألوانه من ساعة لأخري مثل زميله "كلود مونيه". ولذلك اتسم اسلوبه التأثري بطابع أقرب إلي الثبات والاستقرار. فالحركة في لوحاته باطنية يحسها المتذوق لأعماله. وليست حركة ظاهرة يراها المشاهد العابر للوحاته. وكان مولعاً ومتخصصاً في رسم مناظر الريف والحقول والمروج والغابات بأسلوب مشوق الألوان مبين البنيان بالرغم من نبض لمساته. وفي الفترة الأخيرة من حياته ابتداء من عام 1890 قام بعدة رحلات خارج فرنسا إلي انجلترا وبلجيكا وهولندا وداخل فرنسا إلي "الهافر" و"روان" فاتجه إلي رسم المدن والشواطئ والموانئ. ثم استقر بباريس حيث انهمك في رسم مشاهدها وأنوارها المتألقة. وقد فاز بقسط وافر من الشهرة والتقدير في السنوات الأخيرة قبل وفاته عام .1908