جوائز مهرجان القاهرة في دورته ال34 التي انتهت الخميس الماضي تقول إن السينما المصرية تعيش أزهي عصور الإبداع وما يقال عن أزمتها. كلام فارغ ومحروم من الصحة وذلك بعد أن نال فيلم "الشوق" للمخرج خالد الحجر جائزة الهرم الذهبي في مسابقة الأفلام الروائية كبري المسابقات في هذه المناسبة. ونالت بطلته سوسن بدر جائزة مناصفة كأحسن ممثلة مع أقوي ممثلات فرنسا إيزابيل هوبر.. والفيلم المصري ينتمي إلي نوعية من الأفلام أحب أن أسميها أفلام "الطريق المسدود" التي يسد صناعها النوافذ أمام اي أمل للعيش الطبيعي والحياة الكريمة في مصر ويتولي الفقر متمثلاً في ابشع صوره قتل آدمية الإنسان ودفعه إما إلي التسول أو ارتكاب الفاحشة مقابل ثمن مدفوع.. أفلام سوداء باختصار. الفيلم خال من أي قدر من البهجة. مليء بالكآبة. يكسر القلب ويغلق الأبواب تماماً أمام أبطاله وهم فريق من النساء محبطات امتهن الشحاتة أو الدعارة. ورجال سلبت رجولتهم وانتزعت إرادة الفعل لديهم بسبب البطالة وقلة الحيلة. سوسن بدر تستحق جائزة عن كثير من الأدوار التي لعبتها في التليفزيون ودور "فاطمة" الذي لعبته في السينما من خلال فيلم "شوق" ليس من أجمل أدوارها. الفيلم يذكر من بعيد بفيلم "بداية ونهاية" لكن الفارق شاسع بين فيلم جميل وإنساني عن الفقر الذي يهبط علي أسرة متوسطة بسيطة يموت عائلها وبين أم صارمة "أمينة رزق" تتعامل مع الأبناء بما يمليه الموقف الاقتصادي وما يفرضه ضيق اليد بعد موت الأب وبين أم ممسوسة تقتل نفسها. وتدفع بناتها دفعا الي إمتهان الدعارة. وتدفع سكان الحارة إلي فخاخ المهانة حتي تسحق كبرياء الجميع. والشوق يتبني القالب التقليدي في أسلوب الحكي الروائي ولكنه هناك عمل مصري آخر في نفس المهرجان يسبح في الجانب الآخر من التيار السائد وأعني فيلم "ميكروفون" للمخرج أحمد عبدالله "مواليد 1978" وهو نفس المخرج الذي رأينا له مؤخراً فيلم "هليوبوليس". والعملان يعكسان حساسية جديدة وطازجة في التناول. وفي أسلوب التعبير البصري والحكي السينمائي مع منظور يتقدم لمفهوم النجومية التي جعلت المكان والموضوع نفسه وطريقة المعالجة الأهمية الأكبر في تقييم الفيلم وتأثيره فحين نتذكر "هليوبوليس" يتقدم موضوعه علي الفور. وكذلك بالنسبة "لميكروفون" الذي يقدم بطولة جماعية لفرق الموسيقي التي تشكل في الواقع وجدان وحساسية أجيال جديدة بينما لا تسمع الأجيال الأكبر شيئاً عنها.. ومن هنا تصريح المخرج الذي أثار جانباً من جمهور الندوة. حين قال إن أم كلثوم ليست أثراً مقدسا وهي كذلك بالفعل بالنسبة للأجيال الصغيرة أبناء الألفية الثالثة وجيل العولمة. والقرية الواحدة و.. الخ الخ .. ومن الانتصارات المصرية في دورة المهرجان ال34 فوز السيناريو الذي شاركت به الكاتبة والمخرجة الشابة آيتن أمين في مسابقة "ملتقي القاهرة" وهي مسابقة اقتصرت علي المشاريع الخاصة بالسيناريوهات والتي كشفت عن جيل جديد تماماً في مجال الكتابة السينمائية ومنهم من دخل مجال الإخراج منذ فترة قليلة وتفوق ونالت أفلامه الجوائز مثل أحمد رشوان مخرج فيلم "لصرة" وتامر عزت الذي شارك في المسابقة العربية هذا العام بفيلم "الطريق الدائري" وهو عمل يجمع بين القديم والحديث. الواقعية كما يفرزها الواقع الآتي. والإثارة كما في الأفلام البوليسية التقليدية. والتصوير الحديث للشخصيات الفاعلة في المجتمعات التي تعيش فيها. مثل شخصية الصحفي الذي يمثل العمود الفقري في فيلمه "الطريق الدائري" والصورة غير التقليدية المرسومة له في الفيلم. مؤشرات كثيرة تكشفت ضمن فعاليات هذه الدورة تشير إلي سينما عربية جديدة تحفر مكاناً لها في أماكن لم تكن تعرف الإنتاج السينمائي مثل "البحرين" التي أصبح لديها إنتاج شبه متواصل منذ أول افلامها الذي قدمه منذ سنوات المخرج بسام الزوادي.. وفي هذه الدورة شاركت البحرين بفيلم "حنين" للمخرج حسين عباس الحليبي "ولد عام 1977" كما شاركت العراق بعملين "خيالات المآتة" للمخرج حسن علي محمود "مواليد 1967" و"ابن بابل" للمخرج العراقي محمد الدراجي "مواليد 1978". وتستحق المشاركات العربية من تونس ولبنان وسوريا والمغرب التي رأينا لها فيلماً بديعاً بعنوان "الجامع" للمخرج داود أولاد سياد. تستحق دراسة خاصة وذلك من أجل نظرة أكثر عمقاً لنوع الموضوعات التي تدور حولها هذه التجارب ودلالتها السياسية والاجتماعية.. هناك من بين الأفلام العربية تجارب ضعيفة لم تعجب الجمهور مثل الفيلم المغربي "الخفار" الذي شارك في بطولته المغني المصري عصام كاريكا.. والسؤال المشروع هو هل: هذا الانتصار للسينما المصرية حقيقي أم وهمي أم مرهون باللحظة والمناسبة ومزاج لجنة التحكيم في هذه الدورة؟؟ علي أي حال.. لا يستطيع منصف أن ينكر أن هذه الدورة من أكثر الدورات تميزاً في تاريخ مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.. وثمارها سوف تبقي ومن أهم هذه الثمار ليس فقط الجوائز وإنما المطبوعات القيمة ومنها كتاب الزميل أحمد رأفت بهجت بعنوان "مصر وسينما العالم" الذي يستحق منا وقفة مع باقي كتب هذه الدورة.