تعبنا من حديث المؤامرة.. ومن الشكوك والاتهامات المتبادلة بين اللاعبين علي المسرح السياسي.. الذين نجحوا في تحقيق إنجاز واحد كبير هو تحويل ثورتنا المباركة إلي ثورة الشك.. فلم تعد هناك ثقة في أحد ولم يعد هناك يقين في أحد.. بل لم تعد هناك معلومة متفق عليها وموثوق في صحتها. كل الفرقاء متهمون ومشكوك في أمرهم.. وكلهم علي اختلاف مشاربهم السياسية والفكرية ضالعون في تدبير خطط ومكائد سرية ضد الوطن والمواطنين.. وجلسة واحدة أمام صفحة الفيس بوك أو أمام شاشة برنامج للتوك شو ليلاً أو لسماع برنامج إذاعي مفتوح لتعليقات الجمهور كفيلة بأن تصيبك بالهم والغم والإحباط من كثرة الاتهامات والشكوك التي تتردد علي ألسنة السياسيين والحزبيين ضد بعضهم البعض. وكان الله في عون المواطنين.. فهم حائرون تائهون غاضبون مشتتون.. غير قادرين علي تحديد الخطأ من الصواب.. ولا تحديد الصالح من الطالح.. لم يعد هناك خيط واحد يمكن الإمساك به ليصل الناس عن طريقه إلي الحقيقة ولو بعد حين. أعرف أن الديمقراطية تحتاج جهداً وثقافة وصبراً علي عملية الفرز وصولاً إلي الحقيقة.. فالأفكار كثيرة ومتناقضة ومتضاربة.. والاختيار بينها صعب والتمييز أصعب.. خصوصاً أنه لم تعد هناك جهة واحدة تتحدث بلسان واحد.. ولم تعد هناك أفكار معلبة وسابقة التجهيز تلقي إلي الجمهور.. لكن الأمور زادت عن الحد.. وتجاوزت عندنا كل ما له علاقة بالمنافسة الديمقراطية ودخلت بالناس إلي حالة لا نهائية من الشك والبلبلة. كلما ساروا في طريق ظنوا أنه سيوصلهم إلي بر الأمان اشتعل حريق من حولهم وأمسك بتلابيبهم وخرج من يقرعهم ويلومهم ويتهمهم بالجهل والغفلة.. ويؤكد لهم أنهم ضحية مؤامرة كبيرة.. ومن ثم يكون عليهم أن يعودوا أدراجهم ليسيروا في اتجاه آخر.. وليخرج صوت آخر يقرعهم ويلومهم ويتهمهم.. وهكذا دواليك. وقد كان من أبسط قواعد المعقولية أن تظل القوات المسلحة والقضاء بمنأي عن السياسة وعن التشكيك والاتهام.. ويمثلان للمصريين جميعاً مرفأ الأمان والمظلة القومية التي يستظلون بها.. ولكن للأسف نجحت الألاعيب المحكمة لاستدراج القوات المسلحة إلي المواجهة مع المعتصمين في العباسية.. حتي تصبح القوات المسلحة في مرمي الشك والتهم.. وهو ما يؤلم الضمير الوطني للمصريين. الذين دعوا إلي الاعتصام يقولون إن هدفهم الضغط علي المجلس العسكري لتسليم السلطة في موعدها وعدم تزوير الانتخابات الرئاسية وإجراء هذه الانتخابات وفق الجدول الزمني المحدد لأنهم يشكون في أن المجلس العسكري سوف يلتزم بهذه الاستحقاقات. وبعد أن وقعت الواقعة وحدث الصدام وسقط الضحايا عادت أبواق الشك تردد أن موقعة العباسية مقصودة ومدبرة لتأجيل الانتخابات الرئاسية وإحداث ارتباك في المرحلة الانتقالية حتي يضمن المجلس العسكري البقاء في السلطة. وطالت حملة الشك اللجنة العليا المشرفة علي الانتخابات الرئاسية.. وحتي عندما رفض الإخوان دعوات الخروج من ميدان التحرير أمس الأول والتوجه إلي العباسية برروا ذلك بوجود مؤامرة ورغبتهم في تفويت الفرصة علي أصحابها.. وأصدر الإخوان بياناً إلي الشعب طالبوه بالحرص علي إنجاح ثورته وتحقيق أهدافها وعدم السماح بالانقلاب عليها. هناك شك إذن من جانب الإخوان في إمكانية الانقلاب علي الثورة.. وهناك شك من الآخرين بأن الإخوان يعملون علي سرقة الثورة والانقضاض عليها ومصادرتها لمصلحتهم الخاصة في التكويش علي السلطة. ونفس المنطق المتشكك تحدث به خالد علي المرشح اليساري للانتخابات الرئاسية الذي أكد أن الاعتداء علي متظاهري العباسية انقلاب علي الثورة.. في حين قال اتحاد شباب الثورة إن أحداث العباسية كمين لقمع الثوار. علي الجانب الآخر هناك من يهاجم حازم أبوإسماعيل ويتهمه بمحاولة عرقلة الانتخابات الرئاسية.. وقالت الجماعة الإسلامية في بيان رسمي انها لم تشارك في مظاهرات العباسية وهناك من يريد إجهاض الثورة.. بل ان الدكتور ناجح إبراهيم القيادي بالجماعة وجه انتقادا شديدا لحازم أبوإسماعيل متهما إياه بأنه لا يعترف بأخطائه وخبرته السياسية ضعيفة. والخلاصة.. اننا نعيش ثورة الشك العمومية.. حيث لا يثق كل فصيل إلا في نفسه.. ولا يري إلا مصلحته.. وإذا استمرت هذه الحالة فلن نتقدم خطوة واحدة إلي الأمام وسنظل محلك سر.