عندما طلبت من الشيخ جميل الحجيلان وزير الإعلام السعودي مقابلة الملك فيصل من أجل إجراء حوار صحفي للنشر بجريدة الأخبار المصرية وافق الرجل فوراً وتصورت انه سيجري اتصالاً بالقصر الملكي لتحديد موعد لهذا اللقاء وقبل الموعد سيمر علي المرافق السعودي بالفندق ليصحبني للقاء الملك وسينتظر بمكتب رئيس الديوان الملكي إلي ان ينتهي اللقاء ليعود بي إلي الفندق أو للقاء الوزير إلا ان كل ذلك لم يحدث وقال لي الوزير أذهب وقابل الملك. وطلب من المرافق ان يصحبني إلي القصر الملكي. وهناك أمام بوابة القصر قال لي المرافق أدخل وقابل الملك وتركني وانصرف ومن قلب الدهشة والحيرة والمفاجأة قررت ان أدخل القصر. وليكن ما يكون واجتزت البوابة الرئيسية والحديقة الصحراوية التي تضم عدداً من أشجار النخيل والنباتات الشوكية وبقايا مساحات خضراء طغت عليها الرمال. ثم دلفت من الباب الرئيسي. وأنا أتعمد عدم النظر إلي من التقي بهم وكان اللافت للنظر عدم وجود حراسة أو أفراد أمن أو أسوار أمنية لمنع الدخلاء مثل تلك التي أعرفها في مصر. وسرت قليلاً في الممرات فوق سجاد أحمر اللون. وقلت لنفسي سوف أعرف مكان مكتب الملك ومكاتب المديرين من خلال هذا السجاد وحرصت علي ألا اسأل أحداً حتي لا أواجه بسؤال أو بأسئلة من أي نوع. ولكن كان واضحاً لكل من يمدون بجواري انني لست سعودياً لأنني الوحيد الذي يرتدي حلة وربطة عنق ويحمل جهاز تسجيل علي كتفه. ومع ذلك لم اسأل أو استفسر وواصلت السير في الممرات وفي احداها وجدت أن السجاد ازداد سمكة فاستنتجت انني بالممر الذي يقود إلي مكتب الملك وما ان سرت قليلاً حتي وجدت نفسي أمام مكتبين متقابلين أحدهما له باب جانبي أي علي ممر آخر وبابه مفتوح أما الآخر فبابه مغلق. فأدركت انه مكتب الملك أما الثاني المفتوح فمكتب مدير مكتبه وكان اسم الرجل قد تردد كثيراً في لقاءاتي السابقة باعتباره المسئول عن مكتب الملك وقررت ان أدخل المكتب وسألت الجالس عليه عن الشيخ أحمد إبراهيم فقال انه هو فقدمت نفسي إليه فطلب مني الجلوس وأمر بالقهوة وكلما انتهت من شرب هذه الرشفات من القهوة العربية قدموا لي المزيد وطال الوقت قليلاً فتوجهت إلي مكتب الرجل لاسأل متي سأقابل طويل العمر جلالة الملك فطلب مني الانتظار مع وعد بأنني سأقابله. وجلست مع الجالسين الذين تزايد عددهم وبعد فترة فتح الشيخ الباب المطل علي الممر الرئيسي والمواجه لمكتب الملك الذي كان مفتوحاً وطلب من الجميع ان يتفضلوا إلي مكتب طويل العمر ووجدت ان من دخلوا قد جلسوا علي المقاعد الجانبية بالمكتب المتسع المساحة الذي يتصوره المكان الذي جلس فيه الملك. وظل الرجل يستقبل الحاضرين فرداً فرداً وبعد ان يستمع إليهم يصدر أوامره همساً وبما يفيد استجابته لمطالبهم. وبعد قليل قال فليتفضل الصحفي المصري ويجلس بالقرب مني واتجهت إلي حيث أشار ثم خاطبني قائلاً: انه سينظر في مصالح الناس إلي أن انتهي من شرب قهوتي. وحتي لحظة جلوسي بالقرب من الملك ثم بجواره لم أمر بأي اجراءات أمنية ولا حتي بمكتب للاستعلامات ولم يسألني أحد إلي أين؟ أو من أين؟ أو من أنا؟ وأخيراً أشار الملك لكي أجلس بجواره. وسألني عن أحوالي وكيف أجد الاقامة في المملكة ومن ثم فتح الباب أمامي لأستأذنه في إجراء حوار معه فأشار إليّ ان الشيخ جميل أخبره أنني رفضت هدية فأجبت بسرعة ان هديتي الحقيقية هي الحوار مع جلالته. وقبل ان أطرح اسئلتي استأذنته في تسجيل الحوار وأذن الملك وكانت البداية ما سمعته من الأمير عبدالله الفيصل والشيخ كمال آدهم فاستنكر الملك ما قالا. ووصف الأول بأنه ولد وقال عن الثاني انه تركي لا علاقة له بسياسة المملكة وكانت بداية غاية في السياسة والذكاء والبراعة والاقتدار كان الاستهلال رائعاً وتوالت الاسئلة حول الاوضاع في اليمن واتفاقية جدة والموقف في العالم العربي وإسرائيل والقضية الفلسطينية والنفوذ المغربي في المنطقة ومستقبل الصراع الاقليمي والدولي حول الشرق الأوسط في ظل الحرب الباردة أو محاولات الاستقطاب الحادة التي يقودها المعسكران الشيوعي والرأسمالي. كانت قائمة الأسئلة طويلة وكنت قد استغرقت وقتاً طويلاً في اعدادها وكان من الضروري ان اقرأ عشرات الملفات والكتب والدراسات والوثائق فقد كانت المرة الأولي التي يلوح في الأفق احتمال لقاء وحوار مع الملك فيصل ولم أكن أريد ان تكون الفرصة المتاحة هي الاخيرة كنت أتمني لنفسي النجاح وان تتكرر المهام التي تقود إلي ما هو أفضل. وبجانب الاستغراق في الملفات والأوراق سعيت للتعرف بشكل أفضل علي شخصية الملك فيصل خاصة بعد ان تمكن من ازاحة سعود والحلول محله. ولقد كانت هناك أسباب موضوعية من وجهة نظر الاسرة السعودية تتطلب عزل الملك سعود واسناد المسئولية لفيصل. فقد اتسم أداء سعود بالارتجالية والتخبط والتهور منذ ان تفجرت أحداث اليمن كما كان عاشقاً للذة والنساء ومحبا للحياة المنطلقة التي لا تعرف القيود في حين عرف عن فيصل الحكمة والتقشف والزهد والذكاء. ولأن فيصل كان مريضاً خاصة بالقرحة المعدية فقد فرض عليه الأطباء نظاماً غذائياً خاصا يخلو من الدهون والتوابل ويعتمد بشكل أساسي علي الأطعمة الخفيفة السهلة الهضم مع مراعاة تناول كميات محدودة في كل وجبة وبجانب هذا النظام الغذائي كان عليه ان يلتزم بحياة معتدلة وبعيدة عن الاغراق في المتع الحسية. وقد ناسبته هذه الحياة المتقشفة لأنه بطبيعته هاديء ومحب للاستقامة والاعتدال.. وكان قد تعلم من ماضيه وخبراته ان يكون كتوماً وألا يثق في أحد وان يعمل ويفكر وحده دائماً وان تطلب الامر كان يلجأ لاستشارة من هم أهل الاستشارة ومن ميزاته أنه في قراراته لا يعرف الاندفاع أو التهور وكان باستمرار رجل الأزمات في المملكة كما كان موضع ثقة والده الملك عبدالعزيز. كل ذلك أسهم في تكوين صورة ايجابية له في أذهان الناس بجانب السمعة الطيبة. ومنذ البداية قرر ان يتحرك ويعمل علي عدة محاور في نفس الوقت. ولكن كان عليه ان يجمع كل خيوط السلطة في يده. وألا يسمح بوجود قوي مناوئة أو معارضة سواء داخل الأسرة السعودية أو بين صفوف المواطنين. بدأ بالأمراء المعارضين أو المناوئين أو هؤلاء الذين سحرتهم دعاوي القومية العربية والأحلام الوحدوية بجانب الذين اضيروا أو اضيرت مصالحهم من جراء عزل الملك سعود وبالرغم من ان الرئيس المصري قد استغل الملك سعود وهو بالمنفي في معركته مع المملكة السعودية والملك فيصل بأن استقبل سعود في مصر واحتفي به حفاوة بالغة ودفعه للقيام بزيارة لليمن للتدليل علي انقسام الأسرة السعودية وللتلويح لفيصل بقدرته علي استخدام سعود للتآمر علي العرش السعودي وحرمان فيصل من الاحساس بالاستقرار فإن الملك السعودي واجه الموقف بكثير من الصمود. وبذكاء استغل فيصل الخطأ الذي وقع فيه سعود لحصار وعزل ونفي عدد من الامراء خاصة من أبناء سعود وأنصاره. ولم يكن عسيراً عليه تقليص نفوذ عدد آخر من الأمراء المشايعين للعروبة أو المعارضين خاصة وهو يملك قدرات وامكانات هائلة لممارسة الضغط عليهم سواء بسياسة المنح أو المنع أو بتحريك قوي من داخل الأسرة السعودية للتأثير عليهم مع التلويح بالمخاطر التي تهدد المملكة. أما بالنسبة لكبار الأمراء الذين يتحملون مسئوليات مباشرة في الدفاع عن المملكة وفي صياغة السياسات وصناعة القرارات. فقد عمد إلي تحقيق توازن في القوي. بمنع انفراد أي منهم بالسيطرة علي قوة عسكرية توفر له القدرة علي ممارسة اي ضغوط أو التلويح بها. ويعتبر الملك فيصل المهندس الرئيسي لسياسة توازن القوي داخل الأسرة السعودية بل وداخل المملكة ولما كان سلطان هو وزير الدفاع المسئول عن القوات المسلحة السعودية فقد كان ذلك يعني انه القائد الحقيقي وصاحب النفوذ القوي سواء داخل المملكة كلة أو بين أبناء الملك عبدالعزيز ولان فيصل كان في سبيله لعقد صفقات سلاح ضخمة لدعم قدرات القوات المسلحة. خاصة القوات الجوية والدفاع الجوي وانشاء قواعد عسكرية خاصة علي الحدود الشمالية لليمن فقد استغل الموقف وضاعف ميزانية وزارة الداخلية لكي تتوسع في مجال القوة البشرية والسلاح والخبرات الفنية والتكنولوجية. وعلي ضوء هذه السياسة اصبحت القوي العسكرية التابعة لوزارة الداخلية قوة يعتد بها وفعل مع قوات الحرس الوطني السعودي ما فعله مع وزارة الداخلية. وهكذا أصبحت هناك ثلاث قوي عسكرية بالمملكة علي رأس كل منها أمير من أصحاب السطوة والنفوذ. وبهذه القوي المستقلة نسبياً والموزعة والمنتشرة في أنحاء المملكة والقوية التسليح وإن لم تكن متكافئة تماماً تحقق التوازن بالمملكة وداخل الأسرة الحاكمة وأصبحت كل قوة تنظر للقوة الأخري بكثير من الاعتبار. وبهذه السياسة حافظ فيصل علي تماسك الأسرة وأمن مخاطر الانقسام أوبروز مركز أو قوة قادرة علي ممارسة أي نوع من الضغوط. أما معركته الأخطر داخليا فكانت مع جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القوية والمسيطرة استناداً إلي دورها وتأثيرها الديني والأهم إلي التحالف القائم بين الأسرة السعودية ومؤسس ا لمذهب الوهابي والذي شكل نقطة الانطلاق لانشاء الدولة السعودية في منطقة شبه الجزيرة العربية. وأهم ما في هذا التحالف تقاسم السلطة بين الطرفين.. السلطة الزمنية أو السياسية للأسرة السعودية والسلطة الدينية للشيخ محمد بن عبدالوهاب وآل الشيخ من بعده أي أسرته. كان الملك يدرك ان الجماعة تقف عقبة أمام أية محاولة لتطوير وتحديث المملكة وان أي اصلاحات ستوجه بمعارضة قوية وواسعة النطاق من جانب هذه الجماعة وكان قراره ضرورة المواجهة وما ان اعترضت الجماعة علي خطته الخاصة بتعليم البنات حتي أمر بوقف مخصصاتها المالية ومضي في طريقه وامر بفتح أبواب المدارس أمام البنات وبتوفير الحماية الكافية لهن ولأهاليهن ومعاقبة كل من يحاول من أعضاء هذه الجماعة التعرض لهن أو الاعتداء عليهن بأية صورة من الصور. وأدركت الجماعة انها تخوض معركة وجود ضد الملك فيصل ولم يكن مطروحاً ان تستسلم أمامه وأمام أفكاره التي تري انها تتعارض مع التقاليد الراسخة للمجتمع السعودي بل ومع الدين من وجهة نظرها. ومع ذلك لم يكن أمامهم سوي التراجع حرصا علي المخصصات المالية وكسب فيصل هذه الجولة. وسرعان ما دقت المعركة الثانية الأبواب وكان ميدانها الاذاعة. ومنذ عرفت السعودية البث الاذاعي ظل الأمر مقصوراً علي إذاعة القرآن الكريم والتفاسير والأحاديث النبوية والشروح الخاصة بالمذهب الوهابي. ويمثل هذه الاذاعة لم يكن ممكنا للسعودية ان تثبت في مواجهة أعاصير الاذاعة المصرية أو غيرها من الاذاعات خاصةبعد ان انتشرت اجهزة الراديو الرخيصة السعر. ولم يكن الملك فيصل ليقبل ان يترك المواطنين السعوديين لقمة سائغة للإعلام الناصري فأمر بتطوير الإذاعة وبدأ بإذاعة أغاني للمطربين الرجال خشية من ان يثير صوت المطربات مشكلة يصعب مواجهتها في تلك المرحلة المبكرة من خطة التطوير. كانت القضية مرتبطة بالأمن القومي السعودي وبالصراع مع كل القوي العربية والاقليمية المناوئة صاحبة الخط الثوري الذي يستهدف القضاء علي الممالك العربية لا المملكة السعودية فقط. ومن أجل هذه الرؤية الصحيحة سياسياً واستراتيجياً وإعلامياً خاصة الملك هذه المعركة باعتبارها جزءاً من الصراع مع مصر وباقي القوي الثورية العربية. ولم تبد الجماعة اي ردود أفعال في البداية بعدها استخدمت الاذاعة مذيعات من الاناث وكان من بينهن ابنة وزير الإعلام وقتذاك الشيخ جميل الحجيلان ثم انتهي الأمر بإذاعة اغاني للمطربات ولم يجرؤ أي من اعضاء الجماعة علي الاعتراض والصياح بأن صوت المرأة عورة أو فسق أو ان الأمر كله مخالف للدين والتقاليد أو أن الأغاني من عمل الشيطان لانها تنهي الناس عن الصلاة وعن الذكر خشية من قطع المخصصات المالية بشكل نهائي. ولكن الجماعة لم تلتزم الصمت عندما بدأوا العمل في انشاء محطة للارسال التليفزيوني فقد تحركت بسرعة وكسبت في صفها عدداً من الأمراء وخططت للهجوم علي المحطة وتدمير الهوائيات الخاصة بها وكانت الأوامر الصادرة لقوة الحراسة تقضي باطلاق نيران في الهواء للتحذير والانذار إذا ما اقترب المهاجمون من مبني المحطة بعدها توجه النيران إلي المهاجمين إذا ما استمروا في التقدم. وعلي مقربة من المبني سقط أحد الأمراء قتيلاً. وانسحب المهاجمون. وفي النهاية تراجعت الجماعة عن خططها الخاصة بمعارضة الملك علنا.. وهكذا سيطر فيصل علي الجماعة وأحكم قبضته عليها. ولجأ الملك إلي سياسة الانفاق العام ليدعم مكانته وليكسب شعبية لمساندة موقفه وسياساته. وفي هذا الإطار عمل علي توفير الخدمات وبناء المدارس والمستشفيات وإنشاء الطرق. هذه السياسة وفرت آلافاً من فرص العمل وفتحت الباب أمام شركات المقاولات للاثراء. أما بالنسبة للصحافة فقد خطط الملك للسيطرة عليها بتأميمها عبر قانون للصحافة. كان الملك ينهج نهجاً معادياً للاشتراكية والفكر الاشتراكي ومع ذلك لجأ لتأميم الصحافة وقد قبل بهذا التناقض طالما يحقق له أهدافه المتمثلة في سيطرة تتيح انطلاق حملة قوية علي الفكر القومي والتوجه الاشتراكي. وطوال هذه الحملة تجنبت وسائل الإعلام الهجوم علي القاهرة أو عبدالناصر بشكل مباشرة ولكي يبرز الملك فيصل اقليمياً وعالمياً كحاكم قوي وند لعبدالناصر ونظامه وكان من الضروري العمل علي عدة جبهات الاولي إعلامية عالمية والثانية عربية والثالثة اقليمية والرابعة فكرية وعقائدية وعلي الجبهة الاعلامية ابرزت وسائل الإعلام الأمريكية والغربية الملك فيصل كقائد حكيم يقود نظاماً مستقراً ودولة رائدة. ويعمل من أجل الاستقرار في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط التي تغلي بالاضطرابات بسبب تطرق النظم الثورية وحكامها المغامرين الذين يدورون في الفلك السوفيتي. وبالنسبة للجبهة العربية عمد الملك إلي دعم النظم الملكية وإعادة بناء التحالف فيما بينها بشكل يجعل تحركها أكثر فاعلية وتأثيراً واستند التحالف إلي توثيق التعاون والعمل المشترك ضد النظم الثورية وضد الوجود العسكري المصري في اليمن. وفي الوقت نفسه حرص فيصل علي الاحتفاظ بشعرة معاوية مع باقي دول المنطقة التي ليست ملكية والتي عرفت بانها ثورية وكان بذلك يحاول إقامة شرخ في العلاقات بينها وبين مصر مستغلاً في ذلك الجفوة بين النظامين السوري والعراقي ونظام عبدالناصر ومواقف البعثيين في البلدين من الرجل خاصة بعد احداث الانفصال السوري عام 1961 والشكوك العراقية المصرية المتبادلة والتي ترسخت خلال فترة حكم عبدالكريم قاسم. وانطلق الحاكم السعودي علي المسرح الاقليمي بقبوله دعوة لزيارة إيران حيث اعد له الشاه استقبالاً حافلا اراد له ان يحمل الكثير من الدلالات وان تقرأ القاهرة ان كل من طهرانوالرياض يشكلان حلفاً قوياً يقف في وجه مخططاتها وأحلام حاكمها الامبراطورية التوسعية. خلال الزيارة تقاسم الشاه وفيصل مناطق النفوذ في منطقة الخليج ولم يقف العاهل السعودي في وجه اطماع الشاه في المنطقة وفي نفس الوقت وافق الشاه علي دور ونفوذ للسعودية. وفي مجال المعركة الفكرية والعقيدية رفع الملك فيصل بقوة شعار العمل الاسلامي والإسلام ليواجه الفكر القومي والعمل الوحدوي. وهذا الشعار سبق ان رفعه وتبناه الملك سعود اعتباراً من عام .1957 وبما ان السعودية هي الأرض التي تضم الحرمين الشريفين الكعبة بيت الله والمسجد النبوي. فقد توفرت لها قاعدة راسخة لرفع وتبني الشعار الإسلامي وقد وجدت انصاراً كثيرين بين دول العالم الإسلامي وما منظمة المؤتمر الإسلامي إلا احدي نجليات هذا النهج. وفي هذا الإطار خطت المملكة خطوات واسعة لدعم وتمويل كل القوي والمجالات والمنظمات والأحزاب الإسلامية في دول العالم ولم تكن مصر بعيدة عن هذا التوجه السعودي بل كانت في القلب منه. وبالوصول إلي هذه المرحلة توفرت الظروف الملائمة للمناورة ضد الرئيس عبدالناصر واستغلال تورطه في اليمن للضغط عليه وكشف عورات نظامه. وسرعان ما تبنت السعودية مجموعة من طروحات السلام كمرحلة من مراحل العمل التي تستهدف إحراج مصر وعبدالناصر. وعلي هذا الطريق جاءت اتفاقية جدة عام 1965 ويمكن القول ان كلا الطرفين لم يكن راغباً في التوصل إلي حل جذري للقضية وكان كلاهما يناور لكسب الوقت علي أمل ان تتاح له فرصة لتحقيق انتصار عسكري حاسم يجعله في موقع افضل للمساومة أو الاتجار علي المسرح السياسي يضعه في موقف تفاوض أفضل. وخلال الحوار الذي اعددت نفسي له طوال الفترة التي سبقت اللقاء قال الملك فيصل كلاماً طيباً في حق الرئيس جمال عبدالناصر ووصفه بأنه يعمل من اجل التقدم العربي ولا يبخل بأي مجهود لانجاز هذا الهدف وقال انه يدرك ان ما يقوله الرئيس جمال في خطبه العامة ليس أكثر من كلام للاستهلاك المحلي ولا يقصد به أبدا الاساءة لأي حاكم أو شخصية عربية. وطوال فترة الحوار ظل يذكر عبدالناصر بكل الخير. ويلتمس له الاعذار. وعن نتائج مؤتمر جدة قال بوضوح انه حريص مثله في ذلك مثل الرئيس جمال علي حل المشكلة اليمنية التي وصفها بأنها تطورت وأصبحت أكثر تعقيداً وطوال الحديث لم تتغير نبرة الملك وظل هادئاً ووقوراً ورائعاً ونبيلاً وصبورا. وبعد ان طرحت اسئلتي الرئيسية تبينت انني قد مكثت طويلاً وانه آن الاوان للتوقف حتي وان كانت هناك اسئلة لم اطرحها بعد. وشكرت الملك بحرارة وغادرت مجلسه وأنا أشعر بالامتنان فالحوار مع الملك فيصل والذي يعد أول حوار مع حاكم عربي بالنسبة لي يمثل خطوة رئيسية ومهمة علي طريقي المهني وكنت في تلك اللحظة أراه انجازاً كبيراً. ورأيت أن أعجل بالعودة إلي القاهرة ولكن بعد ان أزور قبر الرسول المصطفي صلي الله عليه وسلم فقد كنت قد اعتمرت أكثر من مرة ولكن لم أقم بمثل هذه الزيارة ومن الرياض توجهت إلي المدينةالمنورة ومن هناك عدت إلي جدة وعلي أول رحلة طيران. كانت العودة إلي القاهرة كانت الطائرة تحلق فوق السحاب وكنت أحلق في سماء الأحلام والأماني.