أن تخرج من دار العرض بمشاعر محايدة إزاء فيلم سينمائي شاهدته للتو. ذلك فشل. لأن الحياد في هذه الحالة. حياد سلبي. يعني الفتور. وعدم الحماس وغياب عنصر المتعة المتوقعة والفن وظيفته الأولي أن يمتعك ومع ذلك فإن الحياد لا يعني افتقاد العمل للقيمة الفنية. وإنما يشير إلي خلل ما أفقد الفيلم قوة الجذب. والتأثير الإيجابي في النهاية. كف القمر - الفيلم - عجز صانعه أن يبقيه مثل "الكف" الواحدة التي جاهدت "قمر" بطلته أن تحافظ عليه كتلة واحدة. وكيانا عضويا متماسكا ومنسقا لا يتفرق لخمسين كفا.. ببساطة أكثر افتقد الفيلم التماسك. وتجانس النسيج وترابط الخيوط. فالأبناء الخمسة "كف" قمر وأصابعها المرتبطة في وحدة واحدة. تفرقت بهم السبل وتاهوا. وتاه معهم وحدة الحكي واضطراب الإيقاع. كل ذلك - في رأيي - بسبب رغبة خالد يوسف الجامحة في أن يضمن جوهر الحكاية الجاد بعناصر تعبير مبتذلة وخشنة. ومن ثم يكسر البناء باقحام مشاهد رقص بلدي جماعته لعدد من راقصات درجة ثالثة مكتنزي الأجسام في تكوين بذيء من الشحم واللحم. أو يقحمها بلقطة جماعية للأخوة الخمسة في موال تمثيلي لا يثري المشهد شعورياً ولا درامياً وإنما يكسر الانتباه ويحرفه بلا عائد.. ثمة تفاصيل أخري تدخل تحت عنوان " الهرتلة" لأنها تتجاوز قدرتنا علي التفويت أو بالأحري التصديق لأنها تهدم المنطق وتفوق الاحتمال - درامياً - علي سبيل المثال زواج "ذكري" الابن الأكبر لقمر "خالد صالح" من حبيبة قلبه وعشقه الأبدي منذ الطفولة "غادة عبدالرازق" داخل مستشفي الأمراض العصبية والنفسية المحبوسة فيها. ودخوله بها علي نفس السرير في ذات الحجرة داخل ذات المستشفي وبشهادة الممرضين والطبيب وبرضاهم. فهذا هو "الجنون" ذاته..!! فات السيناريست ناصر عبدالرحمن أن يبحث عن حيلة فنية أكثر منطقية لتحقيق حلم العاشقين. مثلما فاته أن يفتش عن منحني آخر مختلف ومقنع يفرق بين "ذكري" وبين شقيقه الأصغر "بكر" "حسن الرداد" غير اشتراكهما في عشق امرأة واحدة باغية "جومانة مراد". الأول كان يجد فيها متنفساً لغريزته الحيوانية. والثاني يراها ملاذاً برئياً لروحه المغتربة الهائمة في صحراء المدينة عديمة القلب "!!" إن الصدفة هنا أسوأ من أي حيلة أخري للوقيعة بين الشقيقين.. ولست أريد أن أتمادي في تفنيد ما أراه مطبات أعاقت التسليم من جانب نحن المتفرجين للفيلم والاندماج مع أحداثه. وإن كنت أري عدم توفيق المخرج ايضا في اختيار غادة عبدالرازق في دور "جميلة" بنت الجنوب الصعيدية القح التي استحوذت علي قلب "ذكري" ابن "قمر".. في القرية التي رسم الفيلم ملامحها. وفي هذه البيئة الفطرية البدائية - يا خالد - غادة يا دوب جدة وليست بنت بنوت لم يسبق لها الزواج. واعتقد أن اختيارك لها مثل اختيار "هيفاء وهبي" في دكان شحاتة. مدفوع لمغازلة الشباك.. ايضا خالد صالح مع اعترافنا بقدرته التمثيلية وتمكنه. ظهر بدوره أكبر من الدور المسند إليه خصوصاً في الجزء الأول من الفيلم حيث يفترض أنه في مطلع العشرينات. وفاء عامر مع تحفظنا إزاء عنصر المكياج. وهو من العناصر الضعيفة في صناعة السينما المصرية عموماً وفي الفيلم ايضا. أقول إنها "وفاء" أدارت انفعالاتها بمعايير تعبيرية مناسبة لكل موقف. حتي في علاقتها مع "الكلب" الأسود الذي وجد عندها ملاذاً. لم تنزلق إلي مبالغات ميلودرامية ولا أداء تقليدي زاعق مثل "الذكور الخمسة" الذي تلون اداؤهم بالمبالغة والصوت العالي. ربما تفوقت جومانة مراد في التلون بين اصطناع البراءة والغرق في السفالة والنذالة. وبدت حورية فرغلي مقنعة في اللون الواحد الذي فرضته تركيبة الشخصية التي تؤديها. قراءة علي مستويين أجمل العناصر في هذا الفيلم العين الحساسة اللاقطة لجمال الأمكنة وللتشكيلات الطبيعية البديعة التي كانت في خلفية الأحداث. وعين مدير الكاميرا "رمسيس مرزوق" الذي حول الأماكن إلي لوحات حية بآفاق رحبة تظهر من الجلال والجمال الرباني بقدر ما تخفي من الوعورة والمهالك والفخاخ.. كذلك الأماكن الداخلية. وعنصر الديكور التي تجمع بين الفقر الشديد وثراء الثقافة الفطرية المتجذرة في البني آدمين. ايضا استخدام كثير من المشاهد الواقعية جداً للسوق في المدينة. ومضاهاة المقاهي بنظيرتها في هذه الأسواق. الأم وتد وجذع ثابت اعتدت حكاية قمر علي موروث ثابت في الثقافة الشعبية يري "الأم" في وتد يحول دون الشرود والضياع في بربة البشر الأحياء. ويجدها مثل جذع ثابت وفروعها "كف قمر" وإن عضت به الأعاصير باقون حتي لو تاهوا في الأرض وتفرقت بهم السبل. وهدفهم "رومانسي" مريح. ويمكننا قراءة كف القمر علي أكثر من مستوي. الأول كحكاية اسطورية. لأم عاشت في قرية نائية في الجنوب لها من الأولاد الذكور خمسة.. زوجها سليمان القط شاب قوي ظل ينحت في الجبل بحثاً عن كنز. وحين وجده جاء من المدينة رجل اغتاله واستولي علي الكنز. تاركاً الأم والأبناء الخمسة في كنفها يزرعون الأرض ويبنون البيت من قوالب الطين. تواجه قمر طاغية القرية الذي يطرد الأبناء من الأرض التي ظلوا يزرعونها لسنوات. فتنصح الأم ابناءها بالهجرة بحثاً عن الرزق وتوصي الابن الأكبر بأمانة أن يظل حريصاً علي أشقائه لا يعود إلا بهم كتلة واحدة "كف" لا ينقص منهم صابع. النداهة المدينة تضلل الأخوة الخمسة. تفرقهم. تمزق ما بينهم من ترابط ومودة. تغويهم مرة بالجنس ومرة بعالم الرقص والراقصات. ومرة ثالثة بتجارة السلاح. وأخري بالمخدرات وواحد فقط يلوذ ويتمسك بالأرض ويقيم حياته في أرض غريبة يزرعها. في القرية.. تبقي قمر وحيدة. ومع غياب الأبناء تهون علي اشقياء القرية يعتدون علي بيتها ويهدمون جدرانه.. الطاغية والد "جميلة" حبيبة "ذكري" يزوجها قسراً من رجل لا تحبه فتصاب بصدمة عصبية تجعلها تهمل ابنها الرضيع فيموت وتنقل إلي المستشفي إلي حين يتزوجها سراً حبيبها الأولاني ذكري الذي يتحول إلي تاجر سلاح ثري ومستبد وأناني حريص علي مجده الشخصي وصعوده المادي بغض النظر عن مصلحة اشقائه. ولكنه رغم كل شيء حريص علي وصية أمة ينفذها علي طريقته. قمر تمرض ويضطر الطبيب أن يبتر كفها ثم تموت ويجمع ذكري اشقاءه ويعود بهم من حيث جاءوا. يدفنون الأم. ويعاودون بناء البيت التي كانت تحلم به.. وتعود "جميلة" إلي حضن ذكري ومعها الابنة "قمر" الصغيرة.. وتوتة.. توتة... وعلي مستوي الرمز.. وللفيلم قراءة أخري أعتقد أنها الأكثر أهمية في وعي المخرج والمؤلف. "كف القمر" حكاية رمزية ذات أبعاد سياسية مباشرة وليست خفية. مثل حكايات علاء الأسواني الأخيرة. فهناك من يمثل سلطة المدينة المتوحشة وسلطة الريف الجائرة والمواطن الفقير بين شقي الرحي.. وقمر الأم تمثل "السكن" والمأوي. والملاذ القيمي والأمن الأخلاقي. والموروث الثقافي. باختصار "الوطن" بمعناه المعنوي والروحي والمادي. والأبناء هم "الأغصان" أو أصابع الكف التي عصفت بهم المقادير فمنهم من "اغتوي" ومنهم من انحرف. ومنهم من تمسك بالأرض وبقي إلي جوار النهر يزرع ويحصد بالفأس وهو أكثرهم فلاحة ومنهم من تسلط وافتري وأصبح ديكتاتوراً تحت مسمي الوصاية وهناك في النهاية المثل العتيق: في الوحدة قوة والفرقة هوان. وفي الهجرة الندامة. البعد الثقافي الفني دعم خالد يوسف المستويين الأسطوري والرمزي وكذلك الرسائل المتضمنة في ثنايا الحكي السردي وفي طريقة رسم الشخصيات. دعم البعد السياسي الضمني بالحوار الواعي المستوحي من الأمثال والأقوال المأثورة. وبالأغاني والأشعار العامية "طوبا حمرا.. طوبا خضرا" لفؤاد حداد وبحيث جعل من شريط الصوت ترجمة لحنية للمعاني التي تضمنها واحتواها. لماذا الحياد إذن لم توفق الأسطورة في إثارة التعاطف ولم تشحن عواطفنا. رغم المعاني الجيدة التي أراد إيصالها للمتفرجين أسرف السيناريو في الزج بالحكايات الفرعية العديدة والعودة إلي الخلف والرجوع إلي الحاضر وفي العناصر التي اعتقد أنها تروج للفيلم تجارياً علماً بأنه اعتمد علي التقليدي والمستهلك من هذه العناصر.. هناك في الفيلم "نقلات" جيدة جداً ومعبرة بقوة. وأشيد بصفة خاصة بالقطع بين مشاهد الريف الجبلي الرائعة حيث تعيش "قمر" وابناؤها. وبين السوق شديد الزحام الذي انتقل إليه الأبناء مما يؤكد أن الهجرة. ليست سوي غربة واغتراب ومتاهة ولن ينقذ الاشقاء منها سوي العودة إلي الأصول.. ولا أدري إن كان هذا المعني قد وصل في "زحام" الفيلم نفسه أم لا؟؟ باختصار لم ينجح صناع الفيلم في بناء ردود فعل المتفرج بناء تصاعدياً يصل إلي ذروة التجاوب ويتلامس مع مشاعر المتلقي بحيث يتفاعل مع الشخصيات ويفهم أزماتها.. وحتي الرحلة المضنية التي قطعها "ذكري" وهو يجمع شتات الاخوة الذين تفرقوا وصاروا أغراباً والتي تصلح في حد ذاتها فيلماً مستقلاً. حتي هذه لم توفق في نقل ثقل الدوافع التي حركت هذا الأخ "الكبير" إلي حيث نجلس نحن في الصالة نقطعها معه ولكن في حياد ومن دون التجاوب الذي يفترض أن تثيره!!