تناولت في مقال سابق قضية تشغل بال كثيرين من أهل العلم وتتمثل في "كيف تستعيد مصر ريادتها في حفظ وتلاوة القرآن الكريم" خاصة في ظل اختفاء ظاهرة "الكتاتيب" التي كانت تنتشر في معظم القري بالمحافظات وكان "لسيدنا" الذي يتولي رعاية الأبناء ومسئولية تحفيظهم آيات القرآن الكريم تقدير خاص وهي خاصية كانت تنفرد بها مصر وقد نشأ في رحاب هذه الكتاتيب أعداد كبيرة من الذين تبوءوا مكانة عالية وكان لهم نشاط هائل في نشر العلم وخدمة كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه وقد كان للسيدات نصيب في أداء هذه المهمة الجليلة وقد كان للآباء والأمهات دور رائد في تشجيع الأبناء في الانضمام لصفوف أقرانهم في حفظ القرآن وكيفية تلاوته بصورة صحيحة. وقد برع كثير من الشيوخ والسيدات في أداء هذا الدور بكفاءة وقد تفانوا في تربية قطاع عريض من الشباب وكيفية حفظ واتقان الآيات وقد كان لكل أسلوبه في تحفيظ تلاميذه وقد شاءت الأقدار أن أحفظ آيات القرآن الكريم علي سيدة فاضلة نذرت نفيسة هي واثنان من اخوتها لأداء هذا الدور الذي يعتزون به بكل التقدير والاحترام هذه السيدة اسمها "الشيخة نفسها" خصصت منزلها لهذا الغرض في بلدة "الدميين" التابعة لمركز فاقوس بمحافظة الشرقية وكان يتوافد عليها الكثير من أبناء القري المجاورة وقد ذهبت بصحبة والدي رحمه الله لكتاب هذه السيدة وكنت لا أزال أحفظ في بداية سور جزء عم وبعد ثلاثة أشهر كنت قد وصلت إلي سورة الطلاق بجزء قد سمع وفي أحد الأيام سألتني هذه السيدة قائلة: هل انتهيت من سورة الطلاق؟ فأجبتها: لم انته بعد فانتابها الغضب الشديد وأمرت تلاميذها بإحضار "الفلكة" وكنت في ذلك الوقت لا أعرف شيئاً عن "الفلكة" وقد فوجئت بالتلاميذ يتحركون بسرعة والفرحة تبدو علي وجوههم والسعادة تغمر قلوبهم وفي لحظات خاطفة تم وضع رجلي في حبل الفلكة وتم الضغط عليهما بشدة بينما هي أحضرت عصا وانهالت ضربا وبعد علقة ساخنة تم رفع "الفلكة" ثم انطلقت احفظ حتي انتهيت من سورة الطلاق وبذلك أخذت درساً شديد القسوة وبعدها كنت شديد الاهتمام حتي انتهيت من حفظ القرآن الكريم كاملاً في خلال عام واحد فقط وهذه القسوة من جانب سيدتي الشيخة نفيسة كان قول الشاعر العربي ماثلاً في ذهنها حيث قال: فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا علي من يرحم هذا الاسلوب من الشدة دون غلظة كان لابد منه حتي يتخلص التلميذ من الاهمال واللامبالاة ويلتفت إلي الحفظ باهتمام ويقظة شديدة وقد تخرج علي يد هذه السيدة مجموعات كبيرة من أبناء قري مركزي فاقوس وأبو كبير وصاروا بعد سنوات معدودة أساتذة ونجوماً في مجالات التعليم المختلفة وهذا النموذج لهذه السيدة الفاضلة كان يتكرر في كل القري بكل الأقاليم وكان "الكتاب" من أهم سمات القري. بهذا الأسلوب وتلك الطريقة انتشر التعليم وقد استطاع هؤلاء المحفظون القضاء علي نسبة كبيرة من الأمية التي يعاني منها عدد كبير من أبناء الريف ولا سبيل أمام مصر كي تستعيد ريادتها في تلاوة القرآن الكريم إلا بهذا الأسلوب والعودة إلي نظام الكتاب حتي يصبح لدينا مجموعات من حملة القرآن الكريم القادرين علي تلاوة الآيات القرانية باتقان والحرص علي أداء كلماته وفقاً لضوابط وقواعد التلاوة الصحيحة وليكن معلوماً لدي الجميع ان حفظ القرآن يحتاج إلي معلم "شيخ" لتعليم التلاميذ كيفية إجادة القراءة والتلاوة بصورة سليمة. ان مصر تبوأت هذه المكانة العالية في تلاوة القرآن الكريم وصار لديها نجوم في عالم التلاوة بصورة تثير الإعجاب من أمثال الشيخ محمود الحصري تربي بهذا الاسلوب في الغربية وهناك المدرسة القرآنية لآل شعيشع وآل المنشاوي بالصعيد وفي المنوفية كان الشيخ محمود علي البنا وهكذا في كل محافظة كان هناك نوابغ منحهم الله أصواتاً حسنة تغزو القلوب بحسن تلاوتها واتقان آيات الكتاب الكريم ولا تزال هذه الأصوات تؤدي آيات القرآن في أجهزة الراديو والتليفزيون تصدح أصواتهم ومن هؤلاء الشيخ محمد صديق المنشاوي والشيخ عبدالباسط عبدالصمد وغيرهما نجوم تبهر السامعين بهذه الإجادة والأداء وفقاً لعلم القراءات وعلوم القرآن خاصة ان من يختتم القرآن كاملاً يذهب لأحد الشيوخ المتخصصين للتجويد. ان استعادة الرياة في تلاوة آيات القرآن الكريم يحتاج إلي وقفة جادة لاحتضان "المشايخ" الذين يستطيعون أداء هذا الدور بكفاءة والسعي لتشجيعهم مادياً ومعنوياً لكي يصبح لدينا نجوم في تلاوة آيات القرآن الكريم خاصة ان لدينا "قراء" من الشباب يؤدون هذا الدور بصورة تشير إلي أنه بالتشجيع والعمل الجاد نستطيع استعادة دور الآباء والأجداد ولا يجب أن ننسي أهمية هذا العمل دون الالتفات إلي أقوال البعض الذين يسخرون من دور "الكتاب" والأقدمية في تحفيظ القرآن لأن تربية الأبناء بهذا الأسلوب يصبح لدينا أجيال قادرة علي اتقان اللغة العربية ونطق كلماتها بصورة صحيحة والفضل في ذلك يعود للحرص علي تحفيظ الأبناء لآيات القرآن الكريم ويجب أن نتغاضي عن هؤلاء الذين يثبطون الهمة بادعاء التطور والتغني بالمدنية الزائفة وقد أحسنت وزارة الأوقاف حين نظمت مسابقات لاختيار أصحاب الصوت الحسن في أداء آيات القرآن الكريم ولا شك ان الاهتمام والجدية هما الطريق لاستعادة الريادة مرة أخري ويصبح لدينا نجوم في التلاوة ولندرك ان مصر دائماً ولادة للنجوم في كل المجالات خاصة ان أبناء مصر لديهم شغف وحب للقرآن الكريم ويبذلون أقصي الجهد لتعليم الأبناء وتحفيظهم آيات القرآن بكل اهتمام والله يهدي من يشاء للصراط المستقيم.