رحل صبحي شفيق "84 سنة" في هدوء ومن دون وداع ترك الدنيا والناس وصخب المثقفين وسفسطة المتفلسفين. وجماعات "المبدعين" وكل بضاعة "سوق الغرور" "فانيتي فير" التي طالما سخر هو منها! خرج إلي الدار الآخرة تاركاً لا شيء من متاع الحياة. لا بيت ولا مال ولا أزياء ممهورة ولا سيارة. ولا شئ البتة.. لكن لعله ترك "البيانو" العتيق الذي اعتبره جزءاً لا يتجزأ من كيانه.. مجموعة من الأوراق والكتب والكمبيوتر والحقيبة التي لم تفارقه. فصاحب العمارة التي كان يسكنها في مصر الجديدة حين كانت له أسرة. زوجة وأبناء قبل هجرتهم إلي فرنسا انتزع منه الشقة التي شكلت بتفاصيلها عالمه القديم. انتزعها المالك الفظ ولم يقو المثقف الأعزل أن يبقيها لأن ذلك يعني معركة قانونية. ومحامي. وأشياء يعجز عن مواجهتها. انتقل "صُبحي" إلي سكن ثم إلي سكن آخر. وأنا أتابع اشتباكه السلمي وقلة حيلته أمام طلاب الامتيازات الدنيوية. ومن يحكمون وضع الأقنعة علي الوجوه. لم يطمح المثقف الطيب الأعزل إلي شئ دنيوي. ولم يكن له مطالب تفرض عليه التنازل. وعن أي شئ يتنازل؟؟ بينما الحقيقية داخل عقله. وعقله بنك معارف يصرف منه رصيده وكل من سعي إلي قدر من ثروته. ولم يبخل بشئ. ويفخر بأن له تلاميذ وتلميذات يدرسون في جامعات الأقاليم أصبحوا يعرفون "زاوية الكاميرا" و"مصدر الاضاءة" و"الميزانسين" الخ. المصطلحات السينمائية.. يتحدث عن هذه الأجيال الجديدة وهو يضحك سعيداً بما يعرفه عن قرب من الأجيال الطازجة حديثة العهد بالسينما وأن هذه الأجيال الحية تتقرب منه وتجد في كرمه المعرفي فرصة للاستزادة. لا أعرف لماذا كنت أشعر بالتعاطف الشديد مع "صبحي" وأيضا الخوف ربما لأنه مثقف "أعزل" مُعدم إلا من "علمه" فقد كان يزورني بانتظام في مكتبي في صحيفة "شاشتي" عندما كنت أتولي رئاسة تحريرها. ورأيت فيه كِنزاً يثري تلك المطبوعة المتواضعة. أنظر إلي هيئته وإلي شعره الطويل وهندامه وأسمع حديثه الثري المُطَعّم بالمصطلحات التقنية الفرنسية فأحزن.. أسأله عن أبنائه فيحكي بتفاخر عن البنت الفرنسية فأحزن.. أسأله عن أبنائه فيحكي بتفاخر عن البنت والولد ونجاحهما واندهش. فكل منهما يصنع حياته المستقلة بعيداً عن الأم والأب في مدن فرنسية متفرقة. صبحي شفيق نفسه عاش في باريس سنوات وكان له نشاطه الثقافي ودوره وسط المهاجرين العرب والفرنسيين كانت زيارته تفجر داخلي مونولوج طويل أليم حول الكيان الأسري عندما يتشظي والمثقف عندما يمتطي معارفه في صحراء مجدبة لا زرع فيها سوي الصبار. لم أعرف الدكتور والأستاذ صبحي شفيق إلا في الحقبة الأخيرة من حياته حين دعوته للكتابة في "شاشتي" وكان المحررون يحتفون به ويهللون حين يرونه. وكنت حين أشعر باحتياج إلي موضوع معين ألجأ اليه وفي الحال أجده أمامي بخطه الجميل وأسلوبه السلس.. كنا معاً في لجنة المجلس الأعلي للثقافة وفي المناسبات المرتبطة بالنشاط الثقافي وكنت أناديه "صبحي" حاف ومن دون ألقاب تصد مشاعر الحميمية ازائه. فقد كان صبحي أستاذاً بلا أسلحة. يحتاج مشاعر من يعرفون قدره الحقيقي. عالماً يعرف قدر نفسه. وأكاديمي لا يؤمن بغير المنهج العلمي ولديه ميزان يقيس به قدر الناس وقرون استشعار يحدد عفوياً مقدار صدقهم. صبحي مثقف أعزل. مجرد من الإدعاء. ومن الحماية المادية ومن المناصب التي تضمن له البريق والحضور اللائق بشخصه كذلك. وتضمن له التأمين ضد المرض والعوز وحين علمت نبأ وفاته فكرت مهمومة في ساعاته الأخيرة قبل أن يلفظ أنفاسه واسترحت حين قرأت انه دفن في مقابر نقابة المهن الفنية وتمنيت لو انه غادر الدنيا وإلي جواره إنسان يخفف وحشة الموت. علي أي حال كان لهذا المثقف البسيط الغني في حقيقة الأمر. مريدون ولم يعدم في أي وقت إنسان يؤمن به ويقدره لذاته وعلمه.. فقد كان له دور مهم في مجال النقد السينمائي علم أجيالاً وألبس النقد الفني رداء العلم بعيداً عن الانطباعات السريعة والخواطر المنمقة المغرضة. وألبس "الفيلم" مسوح القداسة باعتبار أن السينما فن الفنون. وكان دارساً للموسيقي. وللفنون وللسينما كعلم يقوم علي نظريات ويمر بموجات من التطور. وقد كتب وترجم واستحق أن يُكتب عنه وعن إسهاماته. كرمه المهرجان القومي للسينما وأصدر عنه كتاباً أعده الزميل الناقد سمير فريد بعنوان "صبحي شفيق الناقد الفنان" فقد كان "صبحي" فناناً مستنيراً وحداثياً يكره الرتابة ويحتفي بالجديد وظل كذلك حتي وافته المنية.. ألف رحمة أيها المثقف المجرد إلا من علمه ومن دعوات من عَلّمهم وترك لهم أشياءً مفيدة... أسكنك الله الجنة تسكن فيها روحك بعيداً عن الصخب والتكالب وأسلحة الاغتيال المعنوي التي يشرعها كثير من المثقفين والمدعين.