أنا لا أعرف لماذا لم تتزوج ؟ ذلك لأني لا أعرف عن حياتها البعيدة شيئاً. فقد استيقظ عقلي ليجدها هكذا : امرأة مسنة. ضعيفة وهزيلة. ترتدي جلباباً أسود ومتطرحة. تحمل قفصاً من الجريد جار عليه الزمن. تمسك بعود من البوص. ساعية كل يوم في وضح من النهار إلي المدرسة في قريتها. وكأن ساعة في معصمها حيث تحضر فيضرب جرس الفسحة. ولما تنتهي سميحة تكون قد أطبقت علي بعض من قروش. ويكون القفص قد خف وزنه قليلاً قليلاً. والعصا يعلم الله عنها. ربما سُرقت. وربما هُلكت. وربما تكون قد رجعت بها. لكنها وبأي حال من الأحوال لا تسير في الغالب بدونها. وكأنها ونس وسند لها. ولم لا وهي تتعامل مع أطفال صغار. فيهم من يتطاول علي سماحتها بسذاجته. أو علي قفصها الذي يحمل ما تتستر به من ذل المسألة. وأغلب ظني أن العصا لا تمثل لها حماية بقدر ما تقر لها زعامة. ودليل ظني أنها إذ تتحدث فإنها تتحدث بالكاد. وكثيراً ما يُستعاض بوكز مستخدمة العصا مهما سيكون عاقبته. وأعتقد أنا أن هذا سبب من أسباب دفعتْ بها |إلي عدم الزواج وجعلها تستقل بعيشتها استقلالاً تاماً. *** والمرة لم تسع سميحة إلي رزقها في وضح من النهار. ولا إلي المدرسة كما هي متعودة. إنما سعت إليه في وقت كانت ستنام فيه. داعبتها أحلامها الفقيرة فأزاحت نوماً حل لتوه. إنها إن فعلتْ ستبيع كل ما يحمله القفص الليلة. وربما في ساعة واحدة من ساعاته. إذن ما المانع في إزاحة هذا النعاس. وما المانع من مداعبة هذه الأحلام ؟ إن أولاد الليلة كثيرون. بالطبع أكثر من أولاد المدرسة الفقراء. حيث يحمل الواحد منهم إن حمل الخمسة قروش ولا يشتري منها إلا ما ندر. وغالبيتهم يقع في حيرة من أمره وعندما يستقر يجذبه الجرس جذباً بغيضاً إلي طابور الفسحة .. ! *** نهضت سميحة من ثباتها منعطفة فوق قفصها. تغمس يدها بداخله. تُقَلِّبُ. تتمني. تحدق. تحلم. وبالله عليك أليس من حق سميحة أن تحلم. وما حلم سميحة غير إنهاء بضاعة بقية الأسبوع الليلة واللجوء إلي الراحة بقيته. وبالله عليك سميحة هذه المتعبة أليس من حقها أن تخلد إلي الراحة أياماً ولو قليلة ؟ انهضي يا سميحة. قومي. إن أطفال المدرسة فقراء. إنه فرح الحاج عبدالغني. الغني .. ومشتْ سميحة مع المغربية منعطف أعلاها فوق أسفلها. نصف انعطافة وقد تكورت القفاعية فوق دماغها محتلة الجزء الأكبر من قفاها. تداعب سميحة الأحلام وتداعبها الأماني والحاجات .. *** هناك عند الفرح لم يشغلها هذا الجمع الحافل من رجال تقف بنظام. تتحرك بحكمة. تبتسم. تحتضن. تُقَبِّلُ. بل شرخته سميحة بجرأة ملفوفة بلا مبالاة . وانتقت مكاناً هو في قرارة نفسها ينم عن تفرس. تحت مجموعة من المصابيح ذات الألوان المتعددة والأشكال المختلفة. المتشابكة. الدوَّارة.. سبحان الله يا سميحة. بقدرة قادر يا أختي تقيد وتطفئ ..! *** جلستْ. ربعتْ. في يدها عصاها. لا يشغلها كثرة باعة : كازوزة. لب. حلوي. سوداني. وأشياء مهمة أخري لزوم سهر الليلة. إنما الذي شغلها وبجد راحت تزيد في فحصه وعده وتدقيقه والتحديق فيه هم أطفال كثر رصيد الليلة المباركة في نظرها ستكون.. *** والأطفال يحتفلون. يتقافزون. يتخبطون. يأتي بعضهم ببعض إلي الأرض. يتمرغون. ينثرون التراب في وجه الناموس . وربما في وجه المصابيح. وأخيراً انتهوا إلي رمي بعضهم بعضاً بحبات نيئة من فاكهة الكمثري. وضربوا بعضهم بعيدان بالت من جريد القفص.. !! *** وأبتْ سميحة أن تدخل دار الفرح. أو أن تذق قدراً من مشتهياته ضاربة بتحايل امرأة عرض الحائط. ولأول مرة تُري سميحة متدحرجة. وحيدة بطولها. في طريق إلي بكاء بالقطع سيكون طويلاً. ولو أني أردت أن أمشي معها لمواساتها لأبتْ. ولو هي وافقتْ بالطبع لن أجد أنا مُدخلاً لأنستها. ولن تجد هي فيّ عوضاً لقفصها ولعصاها. فلها الله. ولأحلامها الفقيرة النار.